الغد-د. حمزه العكاليك
غلطة الشاطر قد تكلفه الكثير، خاصة في عالم رقمي سريع لا يرحم الأخطاء الصغيرة. من هنا ولدت الحملة الوطنية "غلطة الشاطر"، التي أطلقها البنك المركزي الأردني لتكون درعا توعويا يحمي المستهلك المالي من أخطر التهديدات الإلكترونية. فمع توسع المحافظ الرقمية والخدمات المصرفية عبر الإنترنت وتغلغل الذكاء الاصطناعي في تفاصيل حياتنا، لم تعد الهجمات الإلكترونية مجرد خبر في الصحف، بل خطرا يطرق باب كل فرد وبيت ومؤسسة. فهذه الحملة جاءت لتلهمنا ونفهم أن الوعي ليس خيارا، بل سلاحنا الأول لبناء ثقة راسخة وحماية مستقبل مالي آمن.
إن حوكمة الأمن السيبراني ودعم مسار التكنولوجيا المالية (FinTech)، يعكسان إدراكا عميقا أن التحول الرقمي ليس خيارا تقنيا بقدر ما هو رافعة أساسية للنمو الاقتصادي والشمول المالي. وقد أثمر هذا الإدراك عن قفزة نوعية عززت مكانة الأردن عالميا، حيث تقدم في مؤشر الأمن السيبراني من المرتبة 71 إلى 27، وهو إنجاز يعكس إرادة سياسية ومؤسسية واعية. وبناء عليه، شدد محافظ البنك المركزي الأردني، الدكتور عادل شركس على أن الحملة ليست مبادرة إعلامية عابرة، بل رسالة التزام طويلة الأمد؛ فوعي المستهلك أضحى عنصرا رقابيا بحد ذاته، يوازي في أهميته الأنظمة التقنية المعقدة.
ولقد جاء إطلاق الحملة في تشرين الأول (أكتوبر)، شهر التوعية العالمي بالأمن السيبراني، ليؤكد مواءمة الجهود الأردنية مع الأجندة الدولية. حيث صممت الحملة أدواتها بعناية، فركزت على تمكين المواطن بالقدرة على تمييز الرسائل المزيفة والروابط الوهمية، ورسخت قاعدة ذهبية وهي أن المؤسسات المالية لا تطلب البيانات السرية عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني. وبهذا المبدأ البسيط والواضح، وضعت أساسا لحماية المستهلك من أبرز صور الاحتيال المنتشرة.
والأهم أن الحملة حولت كل فرد إلى سفير وعي ينقل الرسالة لعائلته ومجتمعه، لتتكون بذلك حلقة حماية اجتماعية واسعة تحولت إلى جدار وطني ضد الاختراقات. كما أشادت بجهود المركز الوطني للأمن السيبراني، الذي يدعم هذه الرؤية عبر مبادرات مثل منصة (Online Safe) وحملة (لمحة رقمية)، بما يؤكد وجود استراتيجية وطنية شمولية لا تقتصر على القطاع المالي.
وفي صميم حملة "غلطة الشاطرط، جاء التركيز على أكثر أشكال الاحتيال المالي الإلكتروني انتشارا وخطورة. فهناك منصات بيع وهمية تخدع الناس بعروض مغرية، ورسائل يانصيب كاذبة تعد بأرباح غير موجودة، وتطبيقات أو أجهزة صراف آلي تستخدم لسرقة البيانات، وصولا إلى انتحال الهوية على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه ليست مجرد محاولات بسيطة لسرقة المال، بل تهديد مباشر لحق حماية البيانات الشخصية. ومن هنا يتلاقى دور القانون مع وعي الفرد، لتتشكل شبكة دفاع متكاملة تضع المستهلك في قلب الحماية.
كما أن الأرقام الإقليمية لا تدع مجالا للشك. ففي العام الماضي وحده، ارتفعت الهجمات على القطاع المالي وخدمات الدفع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 278 %، ليصبح القطاع الأكثر استهدافا على الإطلاق. هذه الهجمات لا تسعى فقط لنهب الأموال، بل تهدف إلى تعطيل العمليات الحيوية، وتشويه السمعة، وإلحاق خسائر اقتصادية ضخمة. وهنا يبرز الدور الحيوي لوحدة الاستجابة للحوادث السيبرانية في القطاع المالي (Jo-FinCERT)، باعتبارها خط الدفاع الأول. ورغم أن إنشاءها يعد إنجازا يضع الأردن في مصاف الدول المتقدمة، مثل الاتحاد الأوروبي وأيرلندا، إلا أن التحدي المقبل أكبر وأكثر أهمية، ألا وهو بناء منصة موثوقة لتبادل المعلومات الاستخباراتية بين البنوك بإشراف البنك المركزي. والهدف من ذلك أن تتحول هذه الوحدة من مجرد أداة للاستجابة إلى ثقافة مؤسسية قائمة على المشاركة الفورية والموثوقة، تمكن المؤسسات من التنبؤ والوقاية قبل وقوع الهجمات.
وعلى المستوى الدولي، تسير رسالة البنك المركزي الأردني حول عدم الإفصاح عن البيانات السرية في انسجام تام مع أفضل الممارسات العالمية. ففي الولايات المتحدة مثلا، ينصح الأفراد بالالتزام بأربع خطوات بسيطة لكنها حاسمة، ألا وهي: استخدام كلمات مرور قوية، تفعيل المصادقة متعددة العوامل (MFA)، الإبلاغ الفوري عن محاولات الاحتيال والتحديث المستمر للبرامج. إنها خطوات صغيرة لكنها تصنع فارقا كبيرا. والأردن، يؤكد أن الحماية الحقيقية لا تقوم فقط على التكنولوجيا المتقدمة، بل أضًا على بناء جدار ناري بشري أساسه الوعي واليقظة، لأن خطأ واحدا قد يفتح الباب لخسارة كبيرة.
ولقد ارتبطت هذه المبادرات برؤية استراتيجية أشمل. فالبنك المركزي، بقيادة مباشرة من المحافظ، يقود أجندة التكنولوجيا المالية بوصفها ركيزة للاستثمار والابتكار. وقد تجلى ذلك بتنظيم مهرجان التكنولوجيا المالية 2025 بالتعاون مع صندوق النقد العربي، حيث اجتمع قادة البنوك المركزية والخبراء الدوليون لمناقشة مستقبل الصناعة المالية الرقمية. هذه الخطوات ترسخ مكانة الأردن كمركز إقليمي للابتكار، مدعوما بمنصات مثل JoRegBox، التي تتيح صياغة تشريعات مستقبلية مبنية على اختبارات واقعية، بما يحول التنظيم من أداة استجابة إلى أداة استباقية.
ختامًا، يمكن القول إن الأردن، عبر البنك المركزي والمركز الوطني للأمن السيبراني، نجح في رسم مسار متوازن بين الابتكار والحماية. فقد وضعت أسس قوية تشمل البنية التشريعية، المنصات التنظيمية، والحملات الوطنية، لتضمن استدامة الثقة بجميع القطاعات. لكن التحديات ما تزال متصاعدة، من هجمات DDoS المدمرة، إلى الحاجة لتفعيل أطر حوكمة البيانات بشكل صارم. فالمستقبل لن يحسم فقط بقدرة المؤسسات على تطوير التكنولوجيا، بل بمدى صلابة منظومتها الأمنية واستعدادها لمواجهة التهديدات. وفي هذا السياق، تبقى الحملة الوطنية للتوعية علامة فارقة تؤكد أن الأردن لا يكتفي بالمشاركة في سباق التحول الرقمي، بل يضع نفسه في موقع القيادة الإقليمية بثقة ورؤية طموحة.