الغد-د. حمزة العكاليك
يشكّل سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ولي العهد، من خلال قيادته لمجلس تكنولوجيا المستقبل، عاملاً محورياً في رسم مسار التحول الرقمي في الأردن. فالتوجيهات المباشرة لسموه، ولا سيما فيما يتعلق بمشروع التوقيع الرقمي الذي تتولى تنفيذه وزارة العدل وربطه بتطبيق سند، تعكس نهجاً عملياً يهدف إلى تسريع وتيرة التحول الرقمي ضمن إطار مسؤول وشفاف. هذا التوجه لا يقتصر على إدخال أدوات تقنية جديدة، بل يرتكز على رؤية متكاملة تعزز الكفاءة الحكومية، وتوفر بيئة قانونية آمنة للتعاملات والعقود، وتضمن وصول المواطنين إلى الخدمات بسهولة وموثوقية. ومن خلال هذه الرؤية، يتم وضع أسس صلبة لبناء اقتصاد رقمي أكثر إنتاجية وتنافسية، بما يرسخ موقع الأردن في مسار التحول الرقمي الإقليمي والدولي.
ويُشكل التحول الرقمي قوة دافعة غير مسبوقة لإعادة تشكيل الاقتصادات والمجتمعات على مستوى العالم. وفي قلب هذا التحول تكمن الحاجة الملحة إلى بناء بيئة رقمية تتسم بالثقة والأمان والموثوقية. فإيعاز سموه بضرورة إنجاز مشروع التوقيع الرقمي من خلال وزارة العدل، يشكل رؤية شاملة تهدف إلى التوسع في الخدمات الحكومية الإلكترونية، مما يُسهم في توفير الخدمات للمواطنين بكل سهولة ويسر. فهذا الاهتمام الرفيع المستوى يمنح المشروع زخماً سياسياً كبيراً، ويضع التوقيع الرقمي في صدارة الأولويات الوطنية كركيزة أساسية لتمكين الاقتصاد الرقمي، وتعزيز الكفاءة الحكومية، وتوفير بيئة قانونية آمنة للعقود والمعاملات.
ومن الأهمية بمكان التفريق بين التوقيع الإلكتروني والتوقيع الرقمي حيث يُعدّ التفريق بين التوقيع الإلكتروني والتوقيع الرقمي نقطة انطلاق حاسمة لفهم الأطر القانونية والتقنية. فالتوقيع الإلكتروني (Electronic Signature) هو مصطلح عام يشمل أي بيانات إلكترونية تُستخدم للتعبير عن موافقة شخص على محتوى معين. حيث يمكن أن يكون التوقيع الإلكتروني بسيطاً جداً، مثل كتابة اسم شخص في نهاية بريد إلكتروني، أو وضع صورة للتوقيع بخط اليد على مستند إلكتروني. ورغم سهولة استخدامه، فإن هذا النوع من التوقيع أقل أماناً وقد لا يُقبل كدليل قانوني ملزم في المحاكم، نظراً لسهولة نسخه وتكراره.
على النقيض من ذلك، يُشكّل التوقيع الرقمي (Digital Signature) نوعاً متقدماً وموثوقاً من التوقيع الإلكتروني. يعتمد التوقيع الرقمي على تقنيات تشفير متقدمة، أبرزها البنية التحتية للمفتاح العام (PKI)، التي تُنشئ زوجاً من المفاتيح: مفتاح عام ومفتاح خاص. يتم إنشاء هذا التوقيع باستخدام شهادة رقمية فريدة للموقع، صادرة عن جهة خارجية موثوق بها تُسمى مُقدّم خدمة الثقة (TSP) أو المرجع المصدّق (CA). هذه الآلية لا تضمن فقط تحديد هوية الموقّع، بل تضمن أيضاً سلامة المستند، بحيث يمكن اكتشاف أي تعديل يطرأ عليه بعد التوقيع.
إن اعتماد الأردن على منصة سند كبوابة للهوية الرقمية هو شرط أساسي لنجاح مشروع التوقيع الرقمي. فهذا الربط يضمن أن التوقيع الرقمي الصادر من سند ليس مجرد توقيع إلكتروني بسيط، بل هو توقيع رقمي موثوق. هذا لأن الهوية قد تم التحقق منها مسبقاً من خلال مكاتب الأحوال المدنية أو محطات سند المنتشرة في أنحاء المملكة، مما يمنح التوقيع قوة قانونية أكبر ويقلل من التحديات المتعلقة بإثبات هوية الموقع.
وتكمن أهمية هذا التمييز في القوة القانونية لكل نوع. فالتوقيع الرقمي مقبول وملزم قانوناً في معظم البلدان ويمكن الدفاع عنه في المحاكم. على الجانب الآخر، قد تواجه التوقيعات الإلكترونية البسيطة تحديات في الإثبات القضائي. وبناءً على ذلك، فإن غياب التمييز الواضح في التشريعات المحلية بين أنواع التوقيع قد يؤدي إلى ارتباك قضائي وعملي. فإذا كان القانون الأردني يُعرّف التوقيع الإلكتروني بشكل عام دون تحديد مستوياته، فذلك يترك مجالاً للتأويل، مما قد يفسر تردد القضاء في قبوله كدليل وحيد في بعض القضايا. حيث يستلزم هذا الواقع مراجعة تشريعية لتحديد مستويات التوقيع وخصائص كل مستوى، على غرار الممارسات العالمية، لضمان أعلى مستوى من الحجية القانونية والقبول.
ويُقدم التوقيع الرقمي مجموعة من الفوائد التي تتجاوز مجرد الكفاءة التشغيلية لتصل إلى تمكين إستراتيجي شامل: فمن حيث الكفاءة التشغيلية وتوفير الوقت: تُسرّع تقنيات التوقيع الرقمي من إتمام المعاملات بشكل كبير، حيث يمكن إنجاز عقود كانت تستغرق أياماً في غضون ساعات قليلة. تلغي هذه التقنية الحاجة إلى الحضور الفعلي وتسمح بإجراء المعاملات من أي مكان وفي أي وقت، مما يوفر الوقت والجهد على المواطنين والمؤسسات على حد سواء. كما تمنح أنظمة التوقيع الرقمي المستخدمين تحكماً أكبر في مستنداتهم، مما يسمح بتتبع حالة التوقيع وإرسال تذكيرات تلقائية، مما يزيد من سرعة الإنجاز.
كما تُسهم حلول التوقيع الرقمي في خفض التكاليف التشغيلية بشكل كبير. فبدلاً من تحمل نفقات الورق والطباعة، ورواتب الموظفين الإداريين المكلفين بالأرشفة، وتكاليف البريد السريع، تُتيح الأنظمة الرقمية توفيراً مادياً ملموسا، فتقنيات التوقيع الرقمي تُسرّع من إتمام المعاملات بشكل كبير، حيث يمكن إنجاز عقود كانت تستغرق أياماً في غضون دقائق أو ساعات قليلة. ويُمكن تحقيق وفورات مالية ملموسة من خلال التخلص من نفقات الورق والطباعة وتكاليف البريد السريع والأرشفة المادية. تشير دراسات دولية إلى أرقام قوية تُثبت هذا العائد؛ حيث تشير التقديرات إلى أن التوقيع الرقمي يُسهم في تحقيق وفورات مالية تُقدّر بحوالي 51 دولاراً كندياً لكل وثيقة، وذلك من خلال القضاء على تكاليف تحديد موقع العقود، طباعتها، إرسالها بالبريد، وتخزينها. وقدّر أحد البنوك الكبرى في كندا (TD ) أن التوقيعات الإلكترونية تُوفر له حوالي 8 ملايين دولار سنوياً من التكاليف الإدارية. كما أظهر بنك أميركي BANK of AMERICA أنه بعد تطبيق التوقيعات الإلكترونية عبر 3000 فرع له في عمليات معالجة القروض، تمكن من تقليل تكاليف التعامل مع مستندات القروض بنسبة 80 %.
وتُظهر البيانات أن التوقيع الرقمي يُسرّع من دورة إنجاز المعاملات بشكل كبير. ففي أحد التقارير، تم إنجاز
82 % من العقود في أقل من يوم،
و50 % في أقل من 15 دقيقة.
كما إن القيمة الحقيقية للتوقيع الرقمي ليست فقط في تقليل التكاليف (وهو عائد مباشر)، بل في تمكين نموذج عمل جديد يسمح بزيادة الإنتاجية وتسريع دورة الإيرادات (وهي عوائد إستراتيجية). فالتوقيع الرقمي يتيح للموظفين التركيز على المهام الأكثر قيمة بدلاً من إضاعة الوقت في المهام الإدارية الروتينية مثل طباعة المستندات، وتوقيعها ومسحها ضوئياً وإرسالها. ومن خلال تقليل الوقت اللازم لإتمام العقود والاتفاقيات، يُمكن للمؤسسات تسريع وتيرة أعمالها وزيادة حجم الإيرادات والمبيعات. ويُمكّن التوقيع الرقمي المؤسسات من توسيع نطاق أعمالها دون الحاجة إلى فتح فروع جديدة. على سبيل المثال، زادت شركة إقراض أميركية عدد الولايات التي تعمل فيها من 28 إلى 48 دون الحاجة لفتح أي فروع جديدة، مما أدى إلى زيادة ملحوظة في حجم القروض التي تمكنت من معالجتها.