المؤسسات الاجتماعية.... مسارات استراتيجية نحو التنمية الشاملة*م. زيد خالد المعايطة
الراي
يواجه الأردن العديد من التحديات الاقتصادية من مديونية مرتفعة ونسب بطالة تعتبر من الأعلى في المنطقة، وانفاق حكومي رأسمالي دون المستويات المطلوبة، و لعل من أخطرها الاختلال في توزيع مواقع ومستويات الثروة ومشاريع التنمية الاقتصادية بين مناطق المملكة المختلفة حيث تتركز معظم الجهود والفرص الرسمية في المدن الرئيسية الثلاث في حين تعاني باقي المحافظات من صعوبات جمة في جذب الاستثمارات أو توفير فرص العمل، وفي ظل هذا الواقع ونتائجه الاجتماعية الخطيرة يصبح من الضروري البحث عن حلول جديدة تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة الديموغرافية والاجتماعية الاردنية، وهنا يبرز نموذج "اقتصاديات المؤسسات الاجتماعية Social Enterprise-" كأحد الخيارات الواعدة لدمجه في الاستراتيجية الاقتصادية الوطنية.
ظهر مفهوم "المؤسسات الاجتماعية" في الأدبيات الاقتصادية في أواخر القرن العشرين، مستندًا إلى نماذج التعاونيات والمبادرات المجتمعية التي ظهرت في القرن التاسع عشر والتي تطورت الى نهج اقتصادي متميز يجمع بين ادوات ادارة الاعمال التقليدية و مبادئ التنمية المجتمعية حيث تمارس المؤسسات الاجتماعية عملها كأي مشروع ربحي ولكن أهدافها لا تقتصر على تحقيق الأرباح المالية فقط بل تستهدف بشكل رئيسي أهدافا اجتماعية أو ثقافية أو بيئية، وتأتي صفة "الاجتماعية" من كون ملكيتها ومصادر تمويلها تكون مرتبطة بالمجتمع المحلي نفسه، سواء من خلال المساهمات المحلية أو المنح أو الشراكات مع القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى أنها تعيد استثمار عوائدها لتحقيق أثر اجتماعي مستدام.
بالاعتماد على نظريات الاقتصاد السلوكي التي تبيّن أنّ الحوافز لا تقتصر على الجانب المالي فقط بل تشمل أيضًا الأبعاد السلوكية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات، وبالنظر إلى السياق الأردني القائم على العلاقات الاجتماعية والعائلية تبرز أهمية المكانة الاجتماعية للفرد كعامل محفز ومؤثر في السلوك العام ما يعزز من أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الاجتماعية كأداة اقتصادية وتنموية فعّالة، فهذه المؤسسات تتيح للمجتمعات المحلية إنشاء مشروعات مستدامة تُعاد استثماراتها لخدمة المجتمع نفسه مثل التعاونيات الزراعية في الاغوار او المناطق الزراعية الشمالية، والمشاريع السياحية التعاونية التي تعزز مشاركة المجتمع المحلي وتبرز الخصوصية التراثية والثقافية لكل مكون من الفسيفساء الاردنية، أو مشاريع النقل داخل المحافظات التي طالما عانت من انعدام وسائط النقل السهلة والآمنة والتي يمكن تطويرها لشبكات نقل تعاونية بين المدن والمحافظات.
هناك العديد من النماذج العالمية التي يمكن دراستها والاستفادة منها مثل التجربة البريطانية حيث ازدهر قطاع المؤسسات الاجتماعية في مجالات اقتصادية متنوعة، ففي اسكتلندا ساعدت التعاونيات الزراعية صغار المزارعين على زيادة إنتاجيتهم والدخول إلى أسواق جديدة من خلال تقاسم الموارد والتسويق المشترك، وفي مناطق مختلفة في انجلترا نجحت مؤسسات اجتماعية في قطاع الطاقة المتجددة بتأسيس مشاريع صغيرة للطاقة الشمسية والرياح عادت أرباحها مباشرة إلى خدمة المجتمع المحلي، وفي كينيا لعبت المؤسسات الاجتماعية دورًا محوريًا في دعم صغار المزارعين من خلال توفير خدمات التدريب والوصول إلى الأسواق مما رفع إنتاجيتهم الزراعية وخلق فرص عمل في المناطق الريفية، كما أسهمت شركات التمويل الاجتماعي في تعزيز الشمول المالي عبر تقديم خدمات الدفع الإلكتروني والتمويل الصغير للفئات غير المخدومة من النظام البنكي التقليدي وهو ما أدى إلى تحريك عجلة النشاط الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة لملايين الأشخاص.
ولتحفيز نشوء وتوسع نشاطات المؤسسات الاجتماعية في الأردن لا بد من خلق بيئة ممكنة ومتكاملة على أكثر من مستوى، فمن الناحية التشريعية ينبغي وضع إطار قانوني واضح يمنح هذه المؤسسات هوية مميزة تجمع بين الأهداف الربحية والخدمة المجتمعية بما يسهل تسجيلها وتشغيلها، وعلى الصعيد المالي، يمكن تحفيزها من خلال توفير إعفاءات أو حوافز ضريبية إضافة إلى تشجيع أدوات التمويل المبتكرة مثل التمويل الجماعي وصناديق الاستثمار ذات الأثر الاجتماعي، كما أن تعزيز الشراكات مع البلديات والقطاع الخاص سيساهم في تنفيذ مشاريع محلية أكثر استدامة فيما يلعب التقدير الاجتماعي والإعلامي دورًا مهمًا في تعزيز مكانة هذه المؤسسات وتشجيع رواد الأعمال الشباب على خوض هذا المجال.
لم تعد فكرة المؤسسات الاجتماعية ترفًا فكرياً او تنظيراً اقتصادياً حبيس الندوات العلمية والمبادرات الفردية، بل غدت في ظروف الحالة الاقتصادية ومحدداتها الحالية خياراً استراتيجياً يمكن أن يسهم في معالجة التحديات البنيوية للاقتصاد الأردني، فهي تعزز العدالة في توزيع الفرص بين المحافظات وتخلق بيئة أكثر شمولية للنمو وتدعم الاستقرار الاجتماعي من خلال ربط المصلحة الفردية بالمصلحة الجماعية. من المؤكد ان دمج هذا النموذج في الاستراتيجية الاقتصادية الوطنية سيمنح الأردن أداة إضافية لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وبناء اقتصاد أكثر عدالة واستدامة ينسجم مع خصوصية نسيجه المجتمعي.