المياه.. ماذا ننتظر بعد بلوغ "الخطوط الحمراء"؟
الغد-إيمان الفارس
لم يعد مصطلح "الخطوط الحمراء" لمخزون السدود، مجرد تعبير فني يستخدم في أروقة قطاع المياه، بل تحوّل إلى ناقوس خطر حقيقي، يقرع أبواب الأمن المائي في الأردن، وسط صيف شديد الحرارة، وموسم مطري، هو الأضعف منذ سنوات، وسدود لم تعد قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية بالشكل الكافي.
في بلد يصنّف أفقر دولة في العالم مائيا، يحمل الوصول لهذه الخطوط الحمراء أبعادا تتجاوز الأرقام والنسب، فتلك الخطوط في مخزون السدود، ليست مجرد حدود على ورق، بل حدود فاصلة بين الأمان والأزمة.
وما يواجهه الأردن اليوم هو اختبار حقيقي، حسب ما وصفه خبراء في قطاع المياه، في تصريحات لـ"الغد"، لقدراته المؤسسية والمجتمعية على التكيف مع واقع مائي قاس، لا يحتمل التأجيل أو التراخي، بل يستوجب تحركا فوريا، شفافا، وتضامنا وطنيا واسعا لضمان عبور هذه المرحلة بأقل الخسائر الممكنة.
وهو مؤشر يعبّر عن لحظة حرجة، تنخفض فيها كمية المياه المخزنة في السدود إلى مستويات لا تسمح بتلبية الحد الأدنى من احتياجات الشرب أو الري أو الاستخدامات الأخرى، ما يدفع المؤسسات المعنية إلى حالة تأهب قصوى، وخطط طوارئ آنية.
تبعات موسم مطري ضعيف
الأمين العام لسلطة وادي الأردن هشام الحيصة، أكد في تصريحات لـ"الغد"، أن المملكة دخلت موسم الصيف الحالي محمّلة بتبعات موسم مطري ضعيف، ما انعكس مباشرة على كميات التخزين المتواضعة في جميع سدود المملكة، وذلك نتيجة واضحة للتغيرات المناخية التي تشهدها المنطقة.
وشدد الحيصة، على أن الكميات المتواضعة من المياه التي خزنت، "استطعنا، بفضل الله، إدارتها بكفاءة عالية خلال الصيف الحالي، لتلبية الاستخدامات والاحتياجات كافة". مبينا أن العمل جار لمواصلة إدارة ما تبقى من هذه الموارد، "وفق أعلى درجات المسؤولية حتى حلول موسم الشتاء، الذي نسأل الله أن يكون جيدا هذا العام".
وفي تصريحات صحفية سابقة، حذر الحيصة من وصول مخزون السدود في الصيف الحالي، إلى الخطوط الحمراء، مضيفا حينها، أنّ ذلك دفع السلطة لوضع خطة طوارئ، لضمان تزويد المواطنين والمزارعين بالكميات اللازمة من المياه، مبينا أنّ السلطة نجحت في مواءمة توزيع المياه بين مياه الشرب ومياه الزراعة رغم تراجع الهطول المطري.
وأشار إلى أنّ السدود وصلت إلى الخطوط الحمراء في هذا الصيف، لكنه طمأن المواطنين والمزارعين بخطة للتعامل مع عملية التزويد المائي، موضحا أن الهطول المطري شكل 35 % من مجموع الهطولات المطرية طوال الموسم، ما استدعى اتخاذ إجراءات خلال الموسم الماضي، لضمان تزويد المزارعين بكميات كافية من المياه.
ومع أن حد مخازين السدود يختلف من سد لآخر حسب سعته وطبيعة استخدامه والاعتبارات البيئية المحيطة به، لكن القاسم المشترك بين جميع السدود، هو أن تجاوز هذا الخط يعني الدخول في منطقة الخطر المائي الفعلي.
ضرورة اتخاذ إجراءات استثنائية
هذا المستوى ليس مجرد رقم، بل هو مؤشر لصانع القرار بضرورة اتخاذ إجراءات استثنائية، قد تشمل خفض كميات التزويد، تقنين الري، زيادة الاعتماد على المياه الجوفية، أو حتى إعادة ترتيب أولويات توزيع المياه.
ويضع الوصول للخطوط الحمراء في معظم السدود، كما هو الحال في الصيف الحالي، الأردن أمام مجموعة مركبة من المخاطر؛ من ضمنها تضاؤل قدرة السدود على تأمين مياه الشرب، وارتفاع التنافس بين القطاعات، والزراعي، والصناعي، والمنزلي، على كميات محدودة من المياه، ما يضع ضغوطا إضافية على الحكومة في الموازنة بين الاحتياجات الأساسية والإستراتيجية، فضلا عن الاعتماد المتزايد على المياه الجوفية، لتعويض النقص، ما يؤدي إلى استنزاف هذه المخزونات بوتيرة غير مستدامة، ويهددها بالنضوب في المستقبل القريب، لا سيما أنها تعد حاليا المصدر الوحيد القادر على تعويض التراجع الفوري في السدود.
ومن ضمن تلك المخاطر؛ تأثر الإنتاج الزراعي، خصوصا أن الزراعة تستهلك نحو 50 % من المياه المتاحة، وأي تخفيض في كميات الري سينعكس مباشرة على المحاصيل والأمن الغذائي المحلي، بالإضافة لضغط إضافي على البنية التحتية والخطط الطارئة، في ظل موجات حرارة حادة وغير معتادة، تزيد من الطلب على المياه بشكل كبير، وتضع الجهات الرسمية في سباق مع الزمن لإدارة الأزمة.
وتزداد المعادلة تعقيدا بسبب تأثير التغير المناخي، الذي لم يعد مجرد احتمال مستقبلي، بل واقع ملموس يتمثل في تراجع معدلات الأمطار إلى أقل من نصف المعدل الطبيعي، وتكرار موجات الحر بشكل أكثر حدة وأطول مدة.
وهذه التحولات تفرض على الأردن إعادة النظر في سياسات المياه التقليدية، والتحول إلى نماذج جديدة قائمة على التكيف والتخطيط الاستباقي.
خطط تزويد مائي مبتكرة
وفي الإطار ذاته، أكد الأمين العام الأسبق لوزارة المياه والري إياد الدحيات، أن التغيّر المناخي الذي شهده الأردن العام الحالي لا يعدّ تقليديا، بل يمثل تحديا غير مسبوق، في ظل التحولات الحادة في أنماط ومعدلات الهطول المطري، التي وصلت لـ50 % من المعدل العام طويل الأمد خلال الشتاء، إلى جانب موجات ارتفاع درجات الحرارة خلال الصيف لفترات طويلة وبشكل حاد.
وأشار الدحيات، إلى أن هذا الواقع المناخي الجديد، يفرض تحديات كبيرة تتطلب إعداد خطط تزويد مائي متدرجة ومبتكرة، تراعي وتواكب سيناريوهات باتت واقعا فعليا ناتجا عن هذا التغيّر المناخي المتسارع.
وأوضح أن انخفاض كميات الأمطار، أثر بشكل مباشر على مخزون السدود، التي وصلت إلى ما وصفه بـ"الخطوط الحمراء"، ما أدى لزيادة حدة التنافس بين مختلف القطاعات، والشرب، والزراعة، والصناعة، على الكميات المحدودة من المياه، ما ينعكس على استدامة هذه المصادر وكفاءتها، برغم أولوية تخصيص المياه لأغراض الشرب.
وبيّن أن هذا العجز في مياه السدود يتم تعويضه حاليا عبر الاستمرار في ضخ المياه الجوفية، ما يؤدي إلى استنزافها بشكل متسارع، كونها المورد الوحيد المتاح حاليا لتغطية النقص في التزويد المائي بشكل فوري.
وقال الدحيات، إن التوقعات المستندة إلى النماذج المناخية تظهر أن موجات التغير المناخي الحاد ستستمر خلال السنوات المقبلة، ما يفرض ضرورة إعطاء الأولوية العاجلة لتمويل وتنفيذ مشاريع إدارة التزويد المائي، واستكشاف مصادر المياه في المملكة، من جميع المصادر الممكنة، بين 2026 و2030، أي قبل بدء وصول مياه مشروع الناقل الوطني لتحلية المياه، كما ورد في إستراتيجية قطاع المياه وبرنامجها الاستثماري.
وأضاف أن التركيز في السنوات الماضية، كان على تنفيذ وتمويل مشاريع تهدف لتخفيض فاقد المياه وتأهيل الشبكات، إذ أسفرت هذه الجهود عن تقليص نسبة الفاقد 2 %، لتصل لـ47 %، مع ضخ الكميات المائية التي جرى توفيرها نتيجة هذه المشاريع.
كما لفت إلى أنه جرى العمل على تنفيذ مشاريع تهدف لإدامة واستدامة كافة مصادر المياه المتوافرة حاليا، وتعزيز كفاءتها وإنتاجيتها، بالإضافة للتواصل المستمر مع الشركاء والمواطنين، لتشجيع تغيير أنماط وسلوكيات استهلاك المياه في المنازل، بما يضمن تعظيم الاستفادة من كل قطرة ماء.
وأكد الدحيات، ضرورة مواجهة التحديات المناخية الحالية والمقبلة، عبر نهج استباقي يدمج بين الاستثمار في البنية التحتية للمياه، وتعزيز الوعي المجتمعي، وتطوير الحلول التقنية والإدارية لضمان الأمن المائي للمملكة في المستقبل القريب والبعيد.
زيادة فترات الجفاف
ومن جهتها، أكد الخبيرة الأردنية في دبلوماسية المياه ميسون الزعبي، أن الأزمة المتجددة بوصول مخازين السدود لـ"الخطوط الحمراء"، تعود على نحو رئيس إلى التغيرات المناخية التي تؤدي لانخفاض معدلات تساقط الأمطار، وزيادة فترات الجفاف، وارتفاع درجات الحرارة.
وقالت الزعبي، إن التصميمات الحالية للسدود لن تكفي لمواجهة هذه التحديات، محذرة من تفاقم الوضع في حال عدم تطويرها.
وأشارت لوجود برامج ومبادرات تنفذها الجهات المعنية، لدعم وحماية مخزون السدود، ومن بينها التجارب الجارية لإنشاء سدود جوفية كبرنامج مشترك مع تركيا، والتي تأتي ضمن مبادرة السلام الأزرق، مضيفة أن هناك توسعا في استخدام الخلايا الشمسية الطافية على المسطحات المائية، والتي تساهم في زيادة كفاءة توليد الكهرباء عبر تبريد الخلايا الشمسية باستخدام المياه، إضافة إلى تقليل التبخر والاستخدامات غير المشروعة للمياه.
وأوضحت الزعبي، أن هذا المشروع الريادي يجري تنفيذه بالتعاون بين مكتب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) في الأردن ومكتبها الرئيس وسلطة وادي الأردن، ومن المقرر تعميمه في حال نجاح التجربة على سد الملك طلال.
ولفتت لوجود برنامج للاستفادة من مياه الصرف الجوفي من خلال تنقيتها وإعادة استخدامها، بدعم وتمويل من الحكومة الهولندية، إلى جانب بناء القدرات في مجال أساليب وتقنيات الزراعة الذكية مناخيا.
وأكدت الزعبي، ضرورة دق ناقوس الخطر لتوعية المواطنين الأردنيين بخطورة الوضع المائي، وحثهم على المساهمة الفاعلة في تحسينه، لافتة لأن الأهم من المشاريع التكنولوجية والتنموية؛ هو تغيير سلوك المزارعين والمستفيدين من المياه، بحيث يتجه الجميع نحو الاستخدام الأكثر كفاءة واستدامة لهذه الموارد الحيوية.
الحفاظ على الأمن المائي
وأكد الأمين العام الأسبق لسلطة المياه توفيق الحباشنة، بأن مصطلح "الخطوط الحمراء" لمخزون السدود يشير إلى انخفاض مستوى المياه في السدود إلى حدٍّ تصبح بعده الكميات غير كافية لتلبية الاحتياجات الأساسية، سواء لمياه الشرب أو الري أو الاستخدامات الأخرى.
وقال الحباشنة، إن هذا الحد يختلف من سد لآخر تبعا لعوامل عدة، أبرزها سعة السد والاستخدامات المخصصة له، فضلا عن اعتبارات بيئية تختلف باختلاف الموقع والغرض من إنشاء السد، مشيرا إلى أن كل سد له طبيعته الخاصة وسعته التخزينية المحددة، ما يجعل خطه الأحمر خاصا به، ولا يمكن تعميم رقم أو نسبة واحدة على جميع السدود.
وأكد أن بلوغ هذا الحد يعد مؤشرا مهما لصانع القرار، لاتخاذ الإجراءات والتدابير المناسبة في الوقت المناسب للحفاظ على الأمن المائي وضمان استمرارية تزويد الاحتياجات الحيوية.
ودعا لضرورة مواجهة تحديات ضعف مخزون المياه في السدود، من خلال مجموعة من الإجراءات والحلول العملية والعاجلة، في مقدمتها إعطاء الأولوية القصوى لاستخدام المياه لأغراض الشرب، باعتبارها أولوية إنسانية لا يمكن التهاون فيها.
وشدّد على أهمية تقليل الفاقد المائي قدر الإمكان، سواء الإداري أو الفيزيائي، مشيرا إلى أن كميات كبيرة من المياه تذهب هدرا سنويا، ما يفاقم من أزمة الشح المائي التي تعاني منها المملكة.
وأضاف الحباشنة، أن من بين الحلول التي يجب العمل عليها بجدية، هي الاستفادة من المياه المعالجة لأغراض الزراعة، بدلا من الاعتماد على كميات المياه المخزنة في السدود الصالحة للشرب، وذلك بهدف تخفيف الضغط على مصادر المياه العذبة وضمان استدامتها.
ووفق تصريحات سابقة للناطق الرسمي باسم وزارة المياه والري عمر سلامة، فإن الارتفاع المتسارع في درجات الحرارة، بخاصة ما شهدته المملكة من موجة شديدة الحرارة الأسبوع الماضي، والمترافق مع موسم مطري ضعيف، وتخزين متواضع في السدود أقل من 50 % من طاقتها، دفع بقطاع المياه إلى حالة من الاستنفار.
وقال سلامة حينها، إن العجز المائي خلال هذا الصيف بلغ 40 مليون م3، في وقت تعمل فيه كافة المصادر المائية بكامل طاقتها.
وبشأن الجانب الزراعي، أكد سلامة أن الوزارة وفّرت كميات كافية من مياه الري للمزارعين، بما في ذلك مزارع النخيل، مشددا على أن كامل احتياجات هذا القطاع تمت تلبيتها.
وبين أن الزراعة، تستهلك 50 % من كميات المياه المتاحة في المملكة، بينما يخصص النصف الآخر للاستخدامات المنزلية، ما يبرز أهمية الموازنة الدقيقة بين القطاعات لضمان استدامة الموارد.