أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    27-Jul-2025

هل يقود البنك المركزي اقتصاد الظل إلى النور؟*د.عدلي قندح

 الدستور

في خضم التحديات الاقتصادية المتراكمة، أعلن البنك المركزي الأردني أن حجم التسهيلات الائتمانية المقدمة للأفراد خلال عام 2024 تجاوز 14 مليار دينار أردني، موزعة على أكثر من 1.6 مليون قرض، منها 11.3 مليار دينار للذكور و2.7 مليار دينار للإناث. وعلى الرغم من أن هذه الأرقام قد تبدو في ظاهرها مؤشراً إيجابياً على تنشيط السيولة وتحفيز الاقتصاد، إلا أن تحليلها من منظور اقتصادي نقدي ومؤسسي يكشف عن أبعاد أعمق تتعلق بدور البنك المركزي في إعادة تشكيل المشهد المالي والاجتماعي في المملكة، خاصة في ما يتعلق بدمج الاقتصاد غير الرسمي ضمن الإطار النظامي.
إن هذه التسهيلات، التي تتجاوز قيمتها حجم الموازنة العامة السنوي، تمثل أحد أكبر التدخلات غير المباشرة في النشاط الاقتصادي الأردني خلال العقدين الماضيين. ووفقًا للنظرية الكينزية، فإن زيادة الطلب على القروض يعكس ميلاً متزايداً لدى الأفراد للاقتراض بدافع الاستهلاك أو الاستثمار، وهو ما يحفز الطلب الكلي ويؤدي في المدى القصير إلى رفع معدلات النمو. غير أن التوسع الائتماني يحمل مخاطر كامنة إذا لم يُقرن برفع كفاءة استخدام القروض وتوجيهها نحو الأنشطة المنتجة، خاصة في اقتصاد يعاني من تشوهات هيكلية وسوق عمل يعاني من بطالة مزمنة.
وعند النظر إلى الفجوة بين الجنسين، نجد أن 365 ألف قرض فقط من أصل 1.6 مليون منحت للنساء، وهو ما يمثل أقل من ربع عدد القروض، وأقل من خمس قيمتها. هذا التفاوت يكشف عن اختلالات في التمكين المالي بين الجنسين، ويُضعف من كفاءة النظام المالي في تحفيز النمو الشامل والمستدام. فوفقًا لاقتصاديات النوع الاجتماعي، فإن تعزيز وصول المرأة إلى التمويل لا يُعد مطلبًا عداليًا فقط، بل ضرورة اقتصادية تعزز الإنتاجية وترفع معدلات المشاركة في سوق العمل.
لكن التحول النوعي الأكثر أهمية في عام 2024 لم يكن فقط في حجم التسهيلات، بل في البنية التحتية للمدفوعات المالية. فبحسب التقرير السنوي لنظام المدفوعات، أُجريت 84 ٪ من المعاملات المالية في الأردن عبر القنوات الإلكترونية، مقابل 16 ٪ فقط بالوسائل النقدية التقليدية، في طفرة غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد الوطني. وهذا التحول الرقمي ليس مجرد تحديث تقني، بل يعكس تغيراً جذرياً في سلوك الأفراد والمؤسسات، ويُترجم توجهًا واضحًا نحو ما تسميه الأدبيات الاقتصادية «الانتقال من اقتصاد الظل إلى الاقتصاد المنظم».
المدفوعات الرقمية تضعف من فرص التهرب الضريبي، وتعزز الشفافية، وتقلل من فجوة المعلومات بين الحكومة والمواطن، وهو ما يُعد أحد أبرز مظاهر ضعف الحوكمة المالية في العالم النامي. ومن هنا، فإن دور البنك المركزي لا يقتصر على ضبط المعروض النقدي وسعر الفائدة، بل أصبح فاعلاً مركزياً في بناء اقتصاد رقمي متكامل، وتحقيق الشمول المالي بأبعاده الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية.
ويُحسب للبنك المركزي بقيادة المحافظ الدكتور عادل الشركس، أن هذا التحول الرقمي جاء من خلال رؤية استراتيجية متماسكة، تمثلت في إطلاق الاستراتيجية الوطنية للمدفوعات الإلكترونية 2023–2025، وتطوير منظومة التوثيق الإلكتروني للقطاع المالي والمصرفي، في انسجام تام مع مستهدفات رؤية التحديث الاقتصادي. هذه الاستراتيجية لم تكتف برقمنة القنوات المالية، بل عملت على أتمتة المعاملات، وتوسيع نطاق قبول المدفوعات الرقمية، والوصول إلى فئات لم تكن ضمن المنظومة المالية الرسمية.
ورغم كل ما تقدم، فإن التوسع في التسهيلات، والتحول الرقمي، وارتفاع نسب الشمول المالي، يجب ألا يُنظر إليه كمنجز مكتمل، بل كمقدمة لمرحلة أكثر تعقيداً تتطلب ضبطاً دقيقاً للمخاطر، وضمانًا لعدالة توزيع التمويل، وتقييمًا دوريًا لأثر السياسات على الاقتصاد الحقيقي. فالتوسع في الائتمان بدون رفع موازٍ في إنتاجية الاقتصاد قد يقود إلى ضغوط تضخمية، أو تراكم ديون غير منتجة، خاصة في ظل معدلات الفائدة الحقيقية الموجبة.
إن ما يحدث في الأردن اليوم ليس مجرد توسع في الإقراض أو رقمنة للخدمات، بل هو إعادة رسم للعلاقة بين المواطن والنظام المالي. البنك المركزي لا يقود فقط السياسة النقدية، بل يقود تحولًا بنيويًا من اقتصاد تقليدي قائم على النقد والتعاملات الورقية، إلى اقتصاد رقمي رسمي أكثر شفافية وكفاءة. والسؤال الذي يُطرح هنا ليس فقط هل نجح البنك المركزي في قيادة اقتصاد الظل إلى النور، بل: هل نحن كمجتمع واقتصاد ومؤسسات مستعدون لاحتضان هذا النور وتحويله إلى نمو عادل ومستدام؟