التعليم التقني يقود مستقبل الجامعات الأردنية وسوق العمل*د. حسن عبد الله الدعجة
الغد
في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم، باتت العلاقة بين التعليم العالي وسوق العمل أكثر تعقيدا وتشابكا من أي وقت مضى. فالعصر الرقمي، وما يحمله من ثورة صناعية رابعة، أعاد صياغة أولويات التوظيف، وفرض على المؤسسات الأكاديمية إعادة النظر في برامجها، ليس فقط لمجاراة التطورات، بل لتكون في موقع الريادة في إعداد كوادر قادرة على المنافسة في بيئات عمل ديناميكية ومتغيرة. وفي الأردن، الذي يواجه تحديات اقتصادية وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، تبدو ضرورة ربط التعليم العالي بمخرجات سوق العمل والتحول نحو البرامج التقنية مسألة مصيرية لضمان استدامة التنمية.
تشير الأرقام الرسمية إلى أن البطالة بين حملة الشهادات الجامعية في الأردن تصل إلى مستويات 21 %، وتحديدًا في التخصصات التقليدية التي لم تعد تجد طلبًا كافيًا في السوق. فعدد من الخريجين يقضون سنوات بحثًا عن وظيفة، في حين تبقى فرص العمل في مجالات التقنية الحديثة والهندسة الرقمية والطاقة المستدامة غير مشغولة بسبب نقص الكفاءات المؤهلة. هذا الخلل بين العرض والطلب يفرض على الجامعات الأردنية مسؤولية مضاعفة في إعادة هيكلة برامجها بما يتوافق مع حاجات الاقتصاد الوطني والإقليمي، ويفتح المجال أمام تخصصات جديدة ذات بعد مستقبلي.
إن التحول إلى البرامج التقنية ليس ترفا أكاديميا، بل هو استجابة لواقع عالمي تتسارع فيه الابتكارات في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء، وأمن المعلومات، والطاقة المتجددة. هذه القطاعات لم تعد محصورة بالدول الصناعية الكبرى، بل أصبحت حاجة ملحّة لدول مثل الأردن، الذي يسعى إلى تنويع اقتصاده، وجذب الاستثمارات، وتطوير بنيته التحتية الرقمية. ولتحقيق ذلك، لا بد أن تصبح الجامعات مراكز لإنتاج المعرفة التطبيقية، وتدريب الكفاءات التي يمكنها قيادة هذا التحول.
التجربة الأردنية في السنوات الأخيرة شهدت خطوات إيجابية في هذا الاتجاه. فقد بدأت بعض الجامعات الأردنية كجامعة الحسين التقنية وغيرها من الجامعات، ومثل على ذلك جامعة الحسين بن طلال، بإدخال تخصصات نوعية تتماشى مع متطلبات السوق، مثل علم البيانات والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والإدارة اللوجستية، والطاقة المتجددة، وإدارة السياحة والتراث. هذه التخصصات لا تقتصر على الجانب النظري، بل تعتمد على التدريب الميداني، والمشاريع التطبيقية، والتعاون المباشر مع مؤسسات القطاعين العام والخاص، لضمان جاهزية الخريجين عند دخولهم سوق العمل.
لكن التحدي لا يكمن فقط في استحداث برامج جديدة، بل في إعادة صياغة فلسفة التعليم العالي بأكملها. فالمطلوب اليوم هو تعليم قائم على المهارات، حيث يتعلم الطالب كيف يفكر ويحل المشكلات ويبتكر، وليس فقط كيف يحفظ ويسترجع المعلومات. هذا يتطلب تحديث المناهج بصورة مستمرة، وإدماج التكنولوجيا في أساليب التدريس، وتبني نماذج تعليم هجينة تجمع بين الحضور الفعلي والتعلم الرقمي.
كما أن الشراكات بين الجامعات والقطاع الخاص تمثل ركيزة أساسية في عملية الربط بين التعليم وسوق العمل. فعندما تشارك الشركات في تصميم المناهج، وتوفر فرص التدريب العملي، وتفتح المجال لمشاريع بحثية مشتركة، يصبح الانتقال من مقاعد الدراسة إلى بيئة العمل أكثر سلاسة وفاعلية. وبالمقابل، تستفيد المؤسسات من رفدها بكوادر مدرّبة على احتياجاتها الفعلية، ما يقلل من تكلفة التدريب الداخلي، ويرفع من كفاءة الإنتاج.
إضافة إلى ذلك، ينبغي أن تتحول الجامعات إلى حاضنات لريادة الأعمال والابتكار، تشجع الطلبة على إنشاء مشاريعهم الخاصة بدل الاكتفاء بالبحث عن وظائف. هذه الثقافة الريادية يمكن أن تسهم في خلق فرص عمل جديدة، وتعزيز الاقتصاد المحلي، خاصة إذا اقترنت بدعم حكومي وتمويل للمشاريع الناشئة، وربطها بحاضنات ومسرعات أعمال داخل الحرم الجامعي.
البحث العلمي التطبيقي يمثل بدوره عنصرًا محوريًا في هذا التحول. فالجامعات التي تستثمر في أبحاث مرتبطة مباشرة باحتياجات الصناعة والمجتمع، مثل تطوير حلول لتوفير الطاقة أو تحسين إدارة الموارد المائية أو تصميم أنظمة أمن سيبراني متطورة، لا تقدم فقط معرفة نظرية، بل تسهم في حل مشكلات حقيقية، وتعزز موقعها كمحرك للتنمية.
إن التجارب الناجحة عالميًا تشير إلى أن الدول التي دمجت بين التعليم العالي والتوجهات الاقتصادية المستقبلية استطاعت تقليص فجوة البطالة، وزيادة تنافسية اقتصادها، وجذب الاستثمارات الأجنبية. والأردن يمتلك المقومات البشرية والمؤسساتية التي تؤهله لتبني هذا النموذج، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية واضحة، وخطط تنفيذية قابلة للقياس، وإطار تشريعي يدعم المرونة في تحديث البرامج الأكاديمية.
يمكن القول إن ربط التعليم العالي بمخرجات سوق العمل والتحول إلى البرامج التقنية لم يعد خيارًا مؤجلاً، بل أصبح مسارًا استراتيجيًا وضرورة وطنية ملحّة يجب أن تسلكها الجامعات الأردنية بسرعة وجرأة. فالاقتصاد العالمي لا ينتظر أحدًا، والتطورات التكنولوجية تتسارع بوتيرة غير مسبوقة، ومن يتأخر في التكيف معها يواجه خطر التراجع والتهميش وفقدان القدرة على المنافسة.
إن الاستثمار في التعليم التقني، وتوجيه الطلبة نحو مجالات المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والطاقة المتجددة، والأمن السيبراني، يمثلان ركيزة أساسية لإعداد جيل يمتلك المهارات التي تتطلبها المرحلة المقبلة. هذا التوجه لا يقتصر على تأهيل الأجيال القادمة لسوق العمل، بل يشكل استثمارًا مباشرًا في أمن الأردن الاقتصادي والاجتماعي، ويسهم في خلق فرص عمل جديدة، وتعزيز الإنتاجية الوطنية، وضمان مكانة الأردن في خارطة التنافسية العالمية كدولة قادرة على الابتكار ومواكبة المتغيرات.