الغد- إيمان الفارس
في عالم يواجه تغيرات مناخية حادة وتدهورا بيئيا متسارعا، تبرز أزمة المياه كأحد أخطر التحديات التي تهدد الاستقرار البشري والاقتصادي.
فالخلل المتزايد بدورات المياه الطبيعية، واستنزاف الموارد الجوفية، وتدهور البنية التحتية، كلها مؤشرات على أن أنظمتنا الحالية لم تعد قادرة على مواكبة الواقع، ما يستدعي إعادة تعريف الأمن المائي، ليس فقط باعتباره وسيلة للاستجابة للكوارث، بل كمنظومة متكاملة يجب بناؤها لضمان القدرة على الصمود وتحقيق التنمية المستدامة في المستقبل.
ولم تعد القضية مجرد أزمة موارد، بل أزمة إدارة، وتخطيط، وبُنى تحتية غير مهيأة للتكيف مع الصدمات المناخية.
واليوم، يفرض الواقع المتغير إعادة النظر بمفهوم "الأمن المائي"، وتحوّله من مجرد استجابة للكوارث إلى قدرة وقائية وبنية صامدة تضمن البقاء.
ففي تقرير أخير للبنك الدولي بعنوان "إعادة التفكير في مفهوم الأمن المائي في عالم يعاني شح المياه"، وحصلت "الغد" على نسخة منه، تأكيدات على أن القدرة الحقيقية على الصمود تتطلب أكثر من مجرد الاستجابة لحالات الطوارئ والتعامل معها؛ فهي تتطلب شبكات مياه أكثر ذكاءً مصممة لتناسب عالماً متغيرا.
وفيما تعالت تحذيرات عالمية إزاء ضعف يعتري إدارة المياه، وسط تصميم أنظمة وشبكات لعالم لم يعد موجودا، مقابل كوارث تسلط الضوء على مواطن ضعفها، فإن أزمة المياه التي تتفاقم في مختلف دول العالم، "تتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة".
وفي هذا الجانب، يتطلب تأمين المياه للمستقبل مجموعة أوسع من الحلول، من أهمها تحسين التمويل، وتعزيز الحوكمة، واستخدام التكنولوجيا المتطورة، وإقامة الشراكات التي تحدث أثرا حقيقيا.
وهنا، يتجدد التأكيد على أهمية إعادة التفكير في مفهوم الأمن المائي، والانتقال من الحلول المؤقتة القائمة على رد الفعل إلى الحلول المستدامة.
وفي هذا الإطار، فإنه رغم إدراك الأردن لأزمة المياه التي تعصف به منذ عقود، إلا أن الجهود الرسمية، على أهميتها، ما تزال أقل من مستوى التحديات المتزايدة، وفق ما أكدته الخبيرة الأردنية في دبلوماسية المياه ميسون الزعبي.
وقالت الزعبي، في تصريحات لـ"الغد"، إن مشروع جر مياه الديسي، رغم ضخامته، إلى جانب مشاريع إعادة تأهيل شبكات المياه وتوسعة السدود، ساهم بتخفيف حدة الأزمة، لكنه لم يشكّل حلًا إستراتيجيًا طويل الأمد يضمن الأمن المائي للبلاد.
وأضافت الخبيرة في "دبلوماسية المياه" أن تعدّي بعض الدول المجاورة على حصة الأردن من المياه، وعدم الالتزام بالاتفاقيات الموقعة، أدى لانخفاض حاد في موارد نهرَي اليرموك والأردن، وهما الموردان الرئيسان للمياه السطحية في البلاد، حيث يتقاسم الأردن نهر اليرموك مع سوريا، ونهر الأردن مع سورية ولبنان وفلسطين ودولة الاحتلال.
وأشارت الزعبي لأن الإستراتيجيات الحالية لمواجهة ندرة المياه، ورغم الاستثمارات الضخمة في تحلية المياه والبنية التحتية، ورغم ضرورتها، إلا أنها ليست مستدامة من الناحية المالية أو البيئية.
ورأت أن تحسين كفاءة توزيع المياه بين القطاعات المختلفة يتطلب إصلاحًا مؤسسيًا يعالج مركزية القرار، ويمنح السلطات المحلية دورًا أكبر بإدارة الموارد، بما يضفي شرعية على القرارات المتخذة على مستوى المجتمعات.
وأكدت الزعبي أن نجاح أي إصلاحات مؤسسية يتطلب شفافية بإعلان الإستراتيجيات الوطنية، وتوضيح أسباب القرارات المتعلقة بإدارة المياه، بما يضمن إشراك المجتمع المحلي في مواجهة التحديات.
ضغط سياسي
ودعت الخبيرة الأردنية لإعتماد خريطة طريق لتحقيق الاستدامة المالية في قطاع المياه، تشمل خفضًا منهجيًا لفقد المياه، وتحسين الكفاءة، وتبنّي تقنيات الطاقة المتجددة، لا سيما في ظل الضغوط التي يفرضها استهلاك الطاقة المرتبط بعمليات الضخ والتحلية.
واقترحت تبنّي سياسات متكاملة للتعامل مع آثار ندرة المياه، مثل الاستثمار في الطاقة الكهرومائية، وتطوير الشبكات الذكية، واعتماد تقنيات القياس الذكي والفوترة الصافية.
وفي السياق ذاته، حذرت الزعبي من أن المياه باتت تُستخدم كورقة ضغط سياسي من قبل بعض دول المنبع، في ظل غياب قواعد دولية ملزمة تضمن تقاسما عادلا للموارد المائية المشتركة.
ورغم وجود اتفاقيات دولية كاتفاقية هلسنكي لعام 1992، فإن تطبيقها على أرض الواقع ما يزال محدودًا، بسبب عراقيل تفرضها بعض الدول.
وأوصت الزعبي بانضمام الأردن لاتفاقية الأمم المتحدة للمياه، اتفاقية هلسنكي، لما توفره من آلية دولية فعالة لتعزيز التعاون، وزيادة الضغوط الدولية على دول المنبع، وضمان إدارة مستدامة للموارد المائية العابرة للحدود.
وعن طريق الاستدامة، خلصت الزعبي لإمكانية أن تنجح طموحات الأردن في مواجهة التغير المناخي، ورغم محدودية الموارد المالية والبشرية، إذا تم اعتماد حلول مبتكرة ومستدامة، كتحلية المياه بطرق صديقة للبيئة، وتوسيع استخدام الطاقة المتجددة، والزراعة الذكية مناخيًا، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي.
وشددت على أن مواءمة السياسات الوطنية مع أهداف الاستدامة والمرونة المناخية ليست رفاهية، بل ضرورة لضمان أمن مائي مستدام، ليس فقط للأردن، بل كنموذج يحتذى في المنطقة والعالم.
وفي تفاصيل التقرير، على مدى الـ50 عاما الماضية، انخفض مخزون المياه الطبيعية بمقدار 27 تريليون م3 جراء تدهور الأراضي، واستنزاف المياه الجوفية، وفقدان الأراضي الرطبة.
وفي الوقت نفسه، اختفى 83 % من أنواع المياه العذبة منذ العام 1970، ما يشير لانهيار أوسع نطاقاً للنظم الإيكولوجية التي كانت ذات يوم تحافظ على استدامة الموارد المائية.
واليوم، يعيش واحد من كل عشرة أشخاص في بلدان تواجه نقصاً حاداً في المياه، وبحلول العام 2040، سيعاني واحد من كل أربعة أطفال من هذه الظروف الصعبة، فالظواهر المناخية الشديدة تؤدي إلى تقلبات شديدة في دورة الماء. وبحلول العام 2050، قد يتأثر نحو نصف سكان العالم بموجات الجفاف، مما يعطل أنشطة الزراعة وسبل كسب العيش.