الغد-د. مروة بنت سلمان آل صلاح
عمان- في زمنٍ يتسارع فيه إيقاع التحول الرقمي، يبرز سؤال جوهري يتجاوز حدود التقنية إلى عمق الهوية: أين يقف المحتوى الرقمي العربي وسط هذه العاصفة العالمية؟ إن العالم اليوم لم يعد يقاس بمساحاته الجغرافية، بل بمساحاته الرقمية، حيث تتحكم المنصات الكبرى في تشكيل الوعي وتوجيه المعرفة، وحيث تصبح اللغة والهوية الثقافية أحد أعمدة السيادة الجديدة. وهنا، يقف العرب أمام مفترق طرق؛ فإما أن يكونوا مستهلكين سلبيين لما ينتجه الآخرون، أو أن يتحولوا إلى منتجين فاعلين لمحتوى رقمي يعكس ثقافتهم، ويثري تعليمهم، ويغذي اقتصادهم، ويعزز سياساتهم المشتركة.
المحتوى الرقمي العربي ليس مجرد نصوص وصور وأصوات منتشرة على الشبكات، بل هو الذاكرة الحية للأمة في زمن افتراضي، وهو امتداد حضاري لرسائل الفكر والمعرفة التي حملتها اللغة العربية عبر قرون طويلة. إن دعم هذا المحتوى وتطويره لا يعني فقط إنقاذ اللغة من الذوبان، بل يعني الاستثمار في رصيد استراتيجي قد يتحول إلى أداة قوة ناعمة، وإلى منصة لتوحيد الصف العربي على أرضية مشتركة من الثقافة والمعرفة. فاللغة التي حملت القرآن والشعر والفلسفة، قادرة أن تحمل أيضاً البرمجيات والمنصات الرقمية، وأن تصبح وسيطاً عصرياً للتعلم والإبداع.
لكن التحدي لا يقتصر على اللغة وحدها، بل يتجاوزها إلى بنية التفكير. فالمحتوى الرقمي العربي يحتاج إلى عقلية إنتاج لا عقلية استهلاك، إلى رؤية تنظر إليه كأصل اقتصادي لا كترف ثقافي. إن بناء مكتبات رقمية، منصات تعليمية، مقاطع مرئية، دوريات بحثية، ووسائط إبداعية بلغتنا، يفتح أبواباً هائلة للاستثمار. فالمحتوى الرقمي بات صناعة قائمة بذاتها، تتداخل فيها التكنولوجيا مع الإعلام والتعليم والترفيه، وتُقاس قيمته بالقدرة على الوصول والتأثير. ولنا أن نتأمل كيف تحولت لغاتٍ أخرى أقل انتشاراً من العربية إلى اقتصاد رقمي مزدهر لأنها وفرت بيئة إنتاجية قوية لمحتواها.
المحتوى الرقمي العربي: الأمة تُبنى من الحروف قبل الخرائط .
من هنا يصبح سؤال التعلم هو قلب المعادلة. فالمحتوى الرقمي العربي لا يكتمل إلا إذا ارتبط بالتعليم، سواء النظامي في المدارس والجامعات، أو غير النظامي في منصات التدريب والمهارات. إن رقمنة المناهج وتقديمها بلغة عربية حديثة تفتح المجال أمام ملايين الطلاب للوصول إلى مصادر معرفة متجددة، وتحرر التعليم من حدود الصفوف التقليدية. بل إن ربط هذا المحتوى بالتقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي يمكن أن يقدم تجربة تعليمية شخصية لكل متعلم، تراعي قدراته واهتماماته. وهنا، يتحول المحتوى إلى جسر بين الماضي العريق الذي يحمل هوية اللغة، والمستقبل الرقمي الذي يتطلب أدوات جديدة للتفكير.
أما على المستوى الاقتصادي، فإن المحتوى الرقمي العربي يمكن أن يكون رافعة حقيقية للتنمية. فالاقتصاد الإبداعي الرقمي، الذي يشمل الألعاب الإلكترونية، الأفلام، الكتب الإلكترونية، التطبيقات، والإعلام الجديد، بات من أسرع القطاعات نمواً عالمياً. وإذا تمكنت الدول العربية من الاستثمار في المحتوى بلغتها وثقافتها، فإنها ستفتح أسواقاً ضخمة للشباب المبدع، وتخلق فرص عمل جديدة، وتضع بصمتها في سلاسل القيمة العالمية. إن تمويل الشركات الناشئة المتخصصة في المحتوى الرقمي، وتوفير بيئات حاضنة للإبداع، يمكن أن يحوّل هذا القطاع من هامش إلى ركيزة في الاقتصاد العربي.
ولأن السياسة لا تنفصل عن الثقافة والاقتصاد، فإن تعزيز المحتوى الرقمي العربي له أبعاد استراتيجية واضحة. ففي عالم تحكمه البيانات والمعلومات، تصبح السيطرة على السرديات والروايات جزءاً من القوة السياسية. إن الدول التي تنتج محتوى رقمياً مؤثراً بلغتها تستطيع أن تفرض حضورها في الحوار العالمي، وأن تحمي صورتها من التشويه، وأن تصنع رأياً عاماً متماسكاً بين مواطنيها. بل يمكن للمحتوى الرقمي العربي أن يكون منصة للتقارب بين الشعوب العربية نفسها، بتجاوز الحدود السياسية والجغرافية، وصناعة فضاء معرفي واحد يعزز الانتماء المشترك.
ولعل أبرز ما يحتاجه هذا المشروع هو التعاون العربي الجماعي. فبناء محتوى رقمي قادر على المنافسة يتطلب تكامل الموارد بين الدول العربية: من مراكز البحوث إلى شركات التقنية، من الجامعات إلى وسائل الإعلام، من السياسات الحكومية إلى المبادرات الشبابية.
إن التفكير بمشروع عربي مشترك لبناء مكتبة رقمية موحدة، أو منصة تعليمية عربية كبرى، أو شبكة إعلامية رقمية موجهة للعالم، هو خطوة في اتجاه توحيد الجهود وتجاوز التشتت. فالمحتوى الرقمي ليس قضية قطرية، بل هو رصيد قومي مشترك يعكس روح الأمة.
غير أن الطريق ليس سهلاً. فهناك تحديات كبرى تبدأ من ضعف البنية التحتية الرقمية في بعض الدول، وتمر بندرة التمويل الموجه لإنتاج المحتوى، وتنتهي بضعف التنسيق بين المؤسسات المعنية. كما أن هيمنة اللغات الأجنبية على الإنترنت تجعل من المحتوى العربي أقل ظهوراً وانتشاراً. لكن هذه التحديات لا ينبغي أن تتحول إلى عوائق، بل إلى محفزات لإبداع حلول جديدة. فالتكنولوجيا نفسها تقدم فرصاً لتجاوز هذه العقبات، من خلال استخدام أدوات الترجمة الآلية، والذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى، والتقنيات السحابية التي تخفض تكاليف التخزين والنشر.
في هذا السياق، يبرز دور الأفراد والمجتمعات إلى جانب الحكومات. فالمحتوى الرقمي العربي لا يبنى بالسياسات وحدها، بل يحتاج إلى مبادرات شخصية ومجتمعية، من مدونين وكتّاب وصناع محتوى مرئي وباحثين وأكاديميين. إن إشراك الشباب، بوصفهم الفاعل الأكبر في الفضاء الرقمي، ضروري لتحويل المحتوى العربي إلى تيار حيّ متجدد. كما أن مشاركة القطاع الخاص والاستثمار فيه تمثل ركيزة أساسية لضمان استدامته وتطوره.
إننا إذ نتحدث عن المحتوى الرقمي العربي، فإننا نتحدث عن مشروع حضاري يعيد تشكيل العلاقة بين الثقافة والتعلم والاقتصاد والسياسة. مشروع يعترف بأن المستقبل لن يكتب فقط بلغة الأرقام والخوارزميات، بل بلغة الهوية والمعنى. مشروع يضع العرب أمام فرصة تاريخية لبناء فضاء رقمي واحد يليق بتجربتهم الحضارية ويستثمر في طاقاتهم البشرية.
فليكن المحتوى الرقمي العربي إذن أكثر من مجرد كلمات وصور، وليكن جسراً بين العقول، وساحة للتعلم، ومنصة للاستثمار، وأداة للسياسة الرشيدة. وليكن الخطوة الأولى نحو وطن عربي رقمي واحد، لا تحده حدود، ولا يقيّده زمان. وطن يصنع ذاته في العالم الجديد بثقة، ويعيد الاعتبار للغته وثقافته كجزء أصيل من معادلة القوة العالمية. وهكذا، حين ندعم المحتوى الرقمي العربي ونعززه، فإننا لا نبني مجرد منصات، بل نبني مستقبلاً مشتركاً لأمة تستحق أن تكون حاضرة وفاعلة في صناعة الغد.