أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    22-Dec-2025

ما وراء الخوارزميات.. تآكل الحقيقة في عصر الذكاء الاصطناعي

 الغد-د. حمزه العكاليك

نحن لا نواجه مجرد طفرة في تكنولوجيا المعلومات، بل نشهد بزوغا لعصر العدمية الرقمية؛ حيث تذبح الحقيقة بدم بارد على مذبح الخوارزميات التوليدية. إن التزييف العميق اليوم ليس مجرد خدعة بصرية، بل هو انقلاب بنيوي على مفهوم الواقع، يحول الفضاء العام إلى مختبر ضخم لهندسة الإدراك الجمعي وتفكيك سيادة الدول من داخل شاشاتها. في الأردن، لم يعد التحقق من المحتوى ترفا تقنيا، بل غدا معركة وجود سيادي في فضاء سائل، تنتج فيه الأكاذيب بدقة بيولوجية تضلل العين وتخترق الوجدان، مما يجعل استعادة زمام المبادرة الرقمية ضرورة قصوى لتأمين النسيج الوطني من شظايا الحقيقة المشوهة التي تنفجر في وجه الوعي كل ثانية.
 
 
في الأردن، تبرز خطورة هذه التقنيات كأداة قادرة على هندسة الفوضى؛ فتوليد فيديوهات مفبركة لقادة الرأي يتجاوز كونه تضليلا إعلاميا، ليصبح عدوانا سياديا يهدف إلى ضرب الاستقرار السياسي، وتفتيت النسيج المجتمعي، وإرباك الاقتصاد الوطني في لمح البصر. فالمعركة اليوم لم تعد بين خبر صادق وآخر كاذب، بل هي صراع وجودي بين دولة المعلومات وبين فوضى الخوارزميات التي تسلب المواطن القدرة على التمييز، مما يحول الإعلام من منارة للخبر الصادق، إلى ساحة ملغومة بالخداع البصري والسمعي يهدد الأمن القومي في جوهره.
إذ لم تعد المعلومة مجرد وسيلة للإدراك، بل غدت مادة خاما يعاد تشكيلها وهندستها في مختبرات الذكاء الاصطناعي التوليدي لخدمة أجندات التضليل الممنهج. فإننا نواجه ما يمكن تسميته بالعدوان السيبراني الناعم، حيث تستغل تقنيات التزييف العميق (Deepfakes)، لتشويه الحقائق بأسلوب سينمائي مذهل يتجاوز قدرة الإدراك البشري المجرد على التمييز.
إن العمق التحليلي يفرض علينا القول إن النص القانوني وحده لا يكفي، ما لم يقترن بوعي قضائي متخصص في حوكمة البيانات؛ إذ إن إثبات الجرم في قضايا التزييف العميق يتطلب خبرة فنية قادرة على تفكيك الخوارزميات، والتمييز بدقة جراحية بين حرية التعبير المشروعة وبين الاغتيال الرقمي المبرمج للشخصيات والمؤسسات الوطنية.
فعلى الصعيد التقني، انتقلت أدوات التزييف من مرحلة التلاعب بالبكسل إلى مرحلة أخطر وهي توليد الواقع البديل عبر نماذج التعلم العميق (Deep Learning)، والشبكات الخصومية التوليدية (GANs). هذا الصراع المحموم بين خوارزميات توليد الزيف وخوارزميات كشفه، أنتج محتوىً يفتقر إلى الثغرات التقليدية، مما يفرض على المؤسسات الإعلامية الأردنية تبني التحليل الجنائي للوسائط (Media Forensics) كجزء لا يتجزأ من عملها اليومي. فهذا التحول يتطلب من الصحفي أن يتحول إلى قاضٍ معلوماتي، مجهز بترسانة تقنية تبدأ من استخدام إضافة InVID، لتفكيك الفيديوهات وفحص بصمتها الصوتية لكشف محاولات محاكاة نبرات الصوت البشرية التي غالباً ما تفتقر إلى الترددات التنفسية الطبيعية، وصولاً إلى فحص الروابط عبر VirusTotal، لضمان سلامة البيئة الرقمية للمؤسسة من هجمات الاصطياد.
فعند ورود أي محتوى صادم، يجب أولاً إخضاع المصدر للفحص الجنائي الرقمي، وتحليل اللغة للتأكد من خلوها من البرود الخوارزمي الذي يميز نصوص الذكاء الاصطناعي. ثم تأتي مرحلة التحقق المكاني والزماني باستخدام أدوات الاستخبارات مفتوحة المصدر (OSINT)، حيث تتم مطابقة معالم الفيديو عبر Google Street View، وتحليل الظلال وحالة الطقس التاريخية عبر WolframAlpha، للتأكد من أن الزمان والمكان ليسا مجرد "وهم رقمي". فالقاعدة الذهبية في غرف الأخبار الحديثة يجب أن تظل ثابتة: لا نشر من دون مصدرين مستقلين، ولا ثقة من دون فحص تقني يطابق معايير قانون الجرائم الإلكترونية، لضمان عدم الوقوع في فخ إثارة الفتنة.
وفي الختام، إن معركة الحقيقة في عصر الذكاء الاصطناعي ليست مجرد مواجهة تقنية، بل هي معركة أخلاقية ووجودية بامتياز. فالتزييف العميق يسعى إلى اختطاف الوعي وتفتيت المجتمع من خلال أكاذيب مقدسة تصاغ بدقة، لكن الحقيقة الرقمية ستظل حصينة بوجود إرادة وطنية صلبة وعقول متيقظة تمتلك أدوات المستقبل. فنحن اليوم، أمام فرصة ذهبية لقيادة تحول رقمي مسؤول يعيد للكلمة هيبتها وللصورة مصداقيتها، فالحقيقة هي الركيزة الوحيدة التي يقوم عليها استقرار الأوطان. فهل سنسمح للخوارزميات الغريبة بأن تكتب تاريخنا المزيف، أم سنمتلك نحن زمام التكنولوجيا لنصون حقائقنا؟ إن الإجابة تكمن في قدرتنا على التحرك الآن، وبقوة، متسلحين بالوعي والقانون والتقنية لحماية مستقبل الأردن الرقمي.