الأردن بين أرقام النمو وتحديات السياسة.. كيف نترجم المؤشرات الاقتصادية إلى أثر ملموس؟
الغد-النائب رند الخزوز
في البيوت في المقاهي في الشارع يتساءل المواطن الأردني حين يسمع عن "نمو اقتصادي" بنسبة 2.8 % وماذا عني؟ هل ستنخفض الأسعار؟ هل سأجد وظيفة؟ هذا السؤال البسيط يعكس جوهر التحدي الذي يواجه الاقتصاد الأردني اليوم، وهو كيفية تحويل الأرقام التي تعلن في المؤتمرات والتقارير الرسمية إلى واقع يلمسه المواطن في حياته اليومية.
تشير بيانات الحكومة الأخيرة أن الاقتصاد الأردني سجل نموا في الربع الثاني من 2025 بنسبة 2.8 % مقارنة بـ 2.4 % في الفترة ذاتها من عام 2024، في حين بلغ النمو في الربع الأول 2.7 % مقابل 2.2 % في العام الماضي، وبذلك يكون الاقتصاد قد حقق تحسنا يتراوح بين 0.4 و0.5 نقطة مئوية، أي ما يعادل زيادة في وتيرة النمو تتراوح بين 17 % و23 % مقارنة بالعام الماضي.
كما تراجع التضخم إلى 2.2 – 3.6 % بعد أن كان 4 – 4.5 % العام الماضي فالتضخم لأول ثمانية اشهر للعام الحالي بلغ 1.86 % في حين بلغ 1.56 % للعام 2024 وارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 1.05 مليار دولار في النصف الأول من 2025 بزيادة قدرها 36.4 % عن الفترة نفسها من 2024. أما البنك المركزي فقد حافظ على احتياطيات تجاوزت 22.7 مليار دولار تكفي لتغطية أكثر من ثمانية أشهر من الواردات، وهو مؤشر قوة واستقرار.
مقابل ذلك واصل إجمالي الدين العام ارتفاعه ليصل إلى 46 مليار دينار للنصف الأول من 2025، مشكلا 118 % من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع 44.5 مليار دينار العام الماضي شكلت 117 % من الناتج المحلي الإجمالي وبنسبة نمو في هذه المديونية تبلغ 3.4 %، وهي نسبة تفوق نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني من 2025 بنحو 0.6 نقاط مئوية، ما يعني أن أي زيادة في النمو الاقتصادي يقابلها زيادة في نمو المديونية، وبالتالي زيادة في فوائد هذه المديونية، ما يؤدي عمليا إلى التهام أي عائد يتوقعه المواطنون من نمو الاقتصاد مع تواصل العجز بين نمو المديونية ونمو الناتج.
لكن وبرغم ذلك، فإن النمو المتحقق خلال 2025 لم يكن تقليديا أو شكليا بالكامل، بل جاء نتيجة نشاط قطاعات إنتاجية فعلية. فقد كانت الصناعة التحويلية المساهم الأكبر فيه بفضل ارتفاع صادرات الأسمدة والفوسفات والأدوية، فيما حققت الزراعة نموا يقارب 8 % مدفوعة بموسم جيد وزيادة الطلب من الأسواق الخليجية. كما استعادت السياحة عافيتها مع تسجيل إيرادات تجاوزت 5.3 مليار دولار خلال الأشهر الأولى من العام الحالي بزيادة 7.5 % عن العام الماضي. في حين شهدت حركة الحاويات في العقبة ارتفاعا بنسبة 33 %، مؤكدة دور الأردن كمحطة لوجستية مهمة. يضاف إلى ذلك النمو المستمر في قطاع الخدمات المالية بفضل متانة الجهاز المصرفي وتوسع نشاطه الإقراضي. فضلا عن مساهمة مشاريع الطاقة المتجددة والكهرباء والمياه في دعم مسار النمو.
لكن لا يمكن أن نفصل الاقتصاد عن السياسة فعندما نحافظ على 22 مليار دولار كاحتياطيات أجنبية، فهذا ليس مجرد رقم مالي بل رسالة سياسية تعزز ثقة المواطن والمستثمر بأن الأردن أمن ومستقر. وعندما نجذب أكثر من مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية، فذلك يرسل إشارة للعالم أننا قادرون على النمو وسط إقليم مليء بالتحديات، لكن السياسة أيضا تُقيد الاقتصاد، فارتفاع الدين العام يعني أن الحكومة مضطرة إلى التفاوض المستمر مع صندوق النقد الدولي، ما يحدّ من قدرتها على زيادة الإنفاق الاجتماعي ويجعلنا أمام معادلة صعبة: الحفاظ على الثقة الدولية من جهة، وتلبية مطالب الداخل من جهة أخرى.
ومع كل ذلك، يبقى السؤال الأهم: متى يلمس المواطن أثر النمو والإصلاح؟ الواقع أن الأثر لا يتكون في يوم أو شهر؛ فعلى المدى القصير، قد نرى استقرارا نسبيا موسميا في الأسعار، وفي وظائف وعائدات السياحة وفي الخدمات، وانخفاضا في كلف التمويل. وعلى المدى المتوسط، يفترض أن تبدأ نتائج الاستثمارات الصناعية واللوجستية في الظهور عبر فرص عمل أوسع، وصادرات أعلى، مع تحسن بيئة الأعمال. وعلى المدى الطويل- وبفرض استمرار الإصلاحات، وانضباط المالية العامة، وتوجيه السيولة نحو الاستثمار المنتج- يفترض أيضا، أن يتحول الاقتصاد لتحقيق نمو مستدام يتجاوز نسبة 5.6 % المشار إليها في رؤية التحديث الاقتصادي، حيث يمكن لهذا النمو أن يخفض فعليا معدل البطالة، ويحسن الدخل الحقيقي، ويزيد القوة الشرائية.
في إطار ذلك، من الإنصاف القول، إن حكومة الدكتور جعفر حسان، نجحت بتحقيق جملة إنجازات مهمة؛ كضبط التضخم ضمن مستويات مقبولة، والمحافظة على الاستقرار المالي والنقدي، ومراكمة احتياطيات أجنبية تمثل خط دفاع قوي عن الاستقرار بأشكاله المختلفة وبالذات المعيشي منه، واستقطاب استثمارات خارجية مهمة رغم الظروف الإقليمية، وتنشيط قطاعات السياحة والصناعة والزراعة، وهي حصيلة تستحق التقدير.
لكن الشكر لا يمنعنا من المطالبة بالمزيد ما أريده اليوم أن يصبح التشغيل معيارًا أساسيًا لكل مشروع استثماري، وأن نتجه لتنويع الصادرات وتقليل الاعتماد على أسواق وسلع محدودة كما يجب أن نعمل على إصلاح مالي حقيقي من خلال ضبط النفقات ومواجهة التهرب الضريبي، إلى جانب توجيه الاستثمارات نحو التكنولوجيا والزراعة الحديثة والصناعات التصديرية بدلًا من التركيز على العقار والخدمات ولا بد أيضًا من تعزيز الشفافية بنشر دوري لبيانات القروض والمنح وربط كل دينار يُنفق بعدد الوظائف التي يخلقها.
الأردن يقف اليوم عند مفترق طرق لدينا نمو أعلى من العام الماضي، ولدينا استقرار نقدي واحتياطيات قوية، لكن لدينا أيضًا دين عام ضاغط وبطالة مرتفعة القضية ليست في الأرقام بحد ذاتها، بل في قدرتنا على تحويلها إلى قصة نجاح يعيشها المواطن. النمو الحقيقي ليس الذي يُكتب في نشرات البنك الدولي أو صندوق النقد، بل الذي ينعكس في حياة الأردنيين: في وظائف جديدة، في دخل أعلى وفي شعور الناس أن الدولة ترافقهم في تفاصيل يومهم.
ودائما، فإن الأرقام التي نعرضها ليست غاية بحد ذاتها بل وسيلة لقياس قدرتنا جميعا حكومة ومجلس نواب على خدمة المواطن، لذلك فالمطلوب من الحكومة أن تجعل التشغيل وخفض البطالة هدفا لكل سياسة اقتصادية، والمطلوب من المجلس أن يمارس دوره في الرقابة والتشريع بما يضمن شفافية الإنفاق وعدالته، والمطلوب من المواطن، أن يطالب وهو يقوم بواجبه بحقه في تنمية حقيقية تنعكس على حياته اليومية. فالاقتصاد لا يكتمل نجاحه إلا عندما يترجم إلى وظائف كريمة، ودخل يحفظ كرامة الأردنيين، وهذه مسؤوليتنا جميعا.