الغد
من الفعاليات ذات الأهمية التي أختتم بها شهر أيلول لهذا العام، إطلاق الإصدار الخامس من تقرير “مؤشر تدخل صناعة التبغ في سياسات الصحة العامة في الأردن” والذي يغطي الأعوام (2023-2024)، والمعدّ بالشراكة مع وزارة الصحة الأردنية ومركز الحسين للسرطان ومجموعة من منظمات المجتمع المدني.
التقرير يعدّ أداة عالمية ترصد تدخلات صناعة التبغ في سياسات الصحة العامة استنادا إلى المادة (5/3) من الاتفاقية الإطارية لمنظمة الصحة العالمية بشأن مكافحة التبغ، والتي تنص على أن “تقوم الدول الأطراف عند وضع وتنفيذ سياساتها في مجال الصحة العمومية فيما يتعلق بمكافحة التبغ، بالإجراءات التي تكفل حماية هذه السياسات من المصالح التجارية وأي مصالح راسخة أخرى لدوائر صناعة التبغ وفقا للقانون الوطني”.
يشير التقرير إلى ارتفاع أداء الأردن بمقدار نقطتين على المؤشر مقارنة بالتقرير السابق ليصل إلى 80 بالمائة، وهو تحسن بسيط وفق التقرير، ويعود بشكل أساسي إلى تبني الإستراتيجية الوطنية لمكافحة التبغ والتدخين للأعوام (2024-2030) هذا من جانب.
من جانب آخر ما زالت مجالات تدخل صناعة التبغ في سياسات الصحة العامة متعددة وفق التقرير؛ وأبرزها المشاركة في صياغة السياسات والتشريعات ذات العلاقة، وما يتعلق بممارسات المسؤولية المجتمعية حيث تستخدم الشركات نشاطاتها في هذا المجال لتحسين صورتها وتحقيق المقبولية المجتمعية ، بالإضافة إلى استمرار وجود تضارب في المصالح وضعف في الإفصاح عن المعلومات وتحقيق مبدأ الاجتماعات المفتوحة بما يحقق الشفافية والانسيابية في هذا الإطار.
في سياق متصل يشير التقرير إلى أن بعض التوصيات في التقرير السابق تم وضع خطوات لتحقيقها مثل دمج تقييم تدخل صناعة التبغ الدوري ضمن آليات المراقبة الوطنية، وفي الوقت ذاته ما تزال هناك العديد من التوصيات وصولا إلى سياسات صحية تحقق الغاية منها في إطار صناعة التبغ وأهمها؛ ضرورة سن قانون خاص بالتدخل الصناعي أو تعديل قانون الصحة العامة بحيث يتم تضمينه مواد واضحة تمنع تدخل صناعة التبغ في السياسات الصحية وتضع آليات قانونية لردع الانتهاكات، وضرورة تسهيل الحصول على المعلومات والإفصاح عنها، واعتماد مدونة أو قواعد سلوك للتعامل مع صناعة التبغ بحيث يلتزم الجميع عند التعامل مع هذه الصناعات بمعايير واضحة ومحددة، وضرورة زيادة الشفافية والإفصاح ونشر محاضر الاجتماعات بين الجهات المعنية وممثلي الصناعة، بالإضافة إلى تعزيز الوعي والتدريب للتوعية بمخاطر هذا التدخل وكيفية مقاومته والحد من محاولات النفوذ، ووضع آليات رقابة مستقلة وتشجيع المجتمع المدني على مراقبة التدخلات وتوثيقها وتعزيز دور الإعلام في هذا الشأن ، وأخيرا إجراء تقييم دوري لمدى التزام الجهات ذات العلاقة بهذه التوصيات.
ختاما ما يتوجب التأكيد عليه في سياق الحديث عن تدخل صناعة التبغ في سياسات الصحة العامة أن من أهم مقاصد الدساتير عموما والمعايير الدولية لحقوق الإنسان بشكل خاص هو خلق حالة من التوازن بين المصالح المتضاربة، فلا تطغى إحداها على الأخرى مع تغليب دائم للمصلحة العامة عند تضارب مصالح أطراف بعينها؛ ذلك أن أي اختلال في التوازن بين المصالح من شأنه أن يحدث حالة من عدم التوازن في المجتمع تظهر من خلال فقدان الأفراد لحقوقهم أو على أقل تقدير عدم وجود الحماية الكافية لهم، وانجرارهم وراء ما يقدم لهم؛ ولهذا السبب جاء اليوم العالمي لمكافحة التبغ لعام 2025 ليحمل شعار “فضح زيف المغريات: كشف أساليب دوائر صناعة التبغ “ ليركز الضوء على كشف الأساليب المتبعة لترويج المنتجات الضارة ورفع الوعي والدعوة إلى سياسات أكثر صرامة.
حالة عدم التوازن هذه فيما يتعلق بصناعة التبغ والتدخل في سياسات الصحة العامة نلمس أثر غيابه في الإنفاق الصحي المتزايد على أمراض وآفات ذات علاقة بتعاطي التبغ بأنواعه المختلفة، ويظهر كذلك في سلوكيات لدى الجيل الجديد من انسياق وراء ما يروج له منتجات، نرى أثره جيدا أيضا على الحق في التعليم الذي يتأثر سلبا بالنسبة الكبيرة للمدخنين بين فئة الشباب والتسرب المدرسي الذي يكون أحد أسبابه في كثير من الأحيان ممارسة سلوكيات بعينها مثل التدخين وتقليد الأقران، وتظهر آثاره أيضا على الحق في بيئة سليمة بالنظر إلى تأثير التبغ وممارساته على عناصر البيئة بأكملها، وغير ذلك من آثار سلبية على حقوق الإنسان تؤثر في مجموعها على تحقيق التنمية المستدامة وتنفيذ أهدافها.
عندما ترجح علاقة على أخرى جزء من العدالة الاجتماعية يُفقد، وجزء من القيم الإنسانية يُفقد أيضا؛ طالما أن تحقيق المكاسب من بعض القطاعات يكون على حساب الكرامة الإنسانية التي يعد الحق في الصحة إحدى ركائزها الأساسية.
في الأردن اليوم لدينا فرصة يتوجب استثمارها لمكافحة التبغ عموما ورسم السياسات العامة المتعلقة به بعيدا عن تدخل صانعيه، هذه الفرصة تتمثل في الإستراتيجية الوطنية لمكافحة التبغ وكافة أشكال التدخين والتي تعد وثيقة وطنية مهمة تتطلب الأعمال والتنفيذ، وتضافر الجهود والإيمان بأن مكافحة التدخين في الأردن هي أفضل استثمار للأجيال القادمة ولمستقبل الأردن.