أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    30-Sep-2025

عندما يصبح القانون محرك النمو (1-2)*د. حمزه العكاليك

 الغد

يقال إن العدل أساس الملك، لكنه في عالم اليوم لم يعد مجرد شعار أخلاقي أو قيمة دستورية عليا، بل أصبح محركاً اقتصادياً واستثمارياً لا غنى عنه. فالنظام القضائي القوي والفعال يمثل الركيزة الأولى لسيادة القانون، والعنصر الحاسم في بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها من جهة، وبينها وبين المستثمرين المحليين والدوليين من جهة أخرى. وقد أثبتت الدراسات الاقتصادية الحديثة أن تسهيل إجراءات التقاضي ورفع اليقين القانوني يفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ويخلق بيئة أعمال مستقرة تترجم مباشرة إلى نمو اقتصادي وتحسين ملموس في حياة المواطنين. وعندما يدرك المستثمر أن حقوقه مضمونة وأن النظام القضائي ملجأ آمن لحمايتها، فإن ثقته تتحول إلى استثمارات وفرص عمل حقيقية.
 
 
ولقد أدركت الحكومة الأردنية، ممثلة بوزارة العدل، هذه الحقيقة الاستراتيجية، وانطلقت في مسار تطويري جاد يعكس إرادة سياسية واضحة. ففي السابق، أسهمت الإصلاحات الاقتصادية والقانونية في تقدم الأردن 29 مرتبة في تقرير ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي، وهو إنجاز لافت يبرهن أن الإصلاحات التشريعية والقضائية ليست مجرد نصوص، بل قوة دفع مباشرة للتنافسية الاقتصادية. واليوم، تواصل وزارة العدل، بقيادة الدكتور بسام التلهوني، هذا النهج بخطى مدروسة، بعيداً عن الضجيج الإعلامي، عبر خطة للتحول الرقمي تركز على بناء إنجازات عملية ومستدامة، تواكب حاجات المواطنين وتطلعات المستثمرين في آن واحد.
فالتحول الرقمي في القضاء الأردني لا يتوقف عند حد أتمتة الإجراءات أو إدخال التكنولوجيا شكلياً، بل يهدف إلى إعادة صياغة المشهد القانوني بما يتماشى مع الثورة الرقمية العالمية. والهدف الأسمى هو تعزيز الثقة بالمعاملات الإلكترونية، وتسهيل وصول العدالة كخدمة متاحة وسريعة. ومن أبرز مؤشرات الأداء التي حددتها وزارة العدل رفع عدد الخدمات الإلكترونية. فبعد إطلاق بوابة إلكترونية حديثة تضم 57 خدمة حتى الآن، تستعد الوزارة للوصول إلى 100 خدمة متكاملة مع نهاية العام، لتؤكد أن العدالة في الأردن لم تعد مجرد قاعات محاكم، بل منظومة رقمية متطورة متاحة بضغطة زر.
هذا التحول يعكس رؤية جديدة للجهاز القضائي باعتباره ليس فقط مُفصلاً للنزاعات (Litigation Resolver)، بل أيضاً مُمكناً للتنمية والخدمات (Service Enabler). فعندما يتمكن المواطن أو المستثمر من إنجاز معاملاته القانونية عن بعد، وعندما تختصر أمد الدعاوى بما يقلل تكلفة عدم اليقين القانوني، فإن الاقتصاد الوطني يربح ثقة المستثمرين ويكسب ميزة تنافسية جديدة.
وفي هذا السياق، جاءت تعديلات تشريعية مهمة خلال العام الحالي؛ أبرزها مشروع قانون معدل لقانون المعاملات الإلكترونية وقانون الكاتب العدل. فهذه التشريعات لا تمثل مجرد تحديث للنصوص، بل نقلة نوعية تعكس إدراك المشرع لأهمية بناء بيئة تشريعية رقمية متكاملة. فقد منحت التعديلات الحجية القانونية الكاملة للسجلات الإلكترونية، لتصبح مساوية للمستند الورقي متى استوفت معايير التوثيق كالتوقيع الرقمي المؤهل والعلامات الزمنية والسجل الأثري. هذه الخطوة تقلل من الجدل القضائي حول صحة المستندات الرقمية، وتخلق وضوحاً قانونياً ضرورياً لتطور الاقتصاد الرقمي.
ولم يقتصر الأمر على الداخل، بل شمل أيضاً المعاملات العابرة للحدود، حيث تم تنظيم الاعتراف بالشهادات الإلكترونية الأجنبية ضمن ضوابط وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة، مما يعزز ثقة المتعامل الأجنبي وييسر الأعمال الدولية المرتبطة بالأردن. هذه الإصلاحات تفتح الباب أمام القضاء الرقمي والتوقيع الإلكتروني داخل الدوائر القضائية، وهو ما يمثل نقلة عملية نحو عالم عدالة بلا حدود.
أما قانون الكاتب العدل لسنة 2025، فقد جاء مكملاً أساسياً لهذا التحول، عبر نقطتين جوهريتين: الأولى تحرير الاختصاص المكاني بحيث يمتد إلى جميع المحافظات، مما يقلل الوقت والكلفة على المواطنين، والثانية تمكين الكاتب العدل من إجراء معاملات من خارج المملكة إلكترونياً، ومنحها الصفة القانونية ذاتها المقررة للمعاملات الورقية. إضافة إلى ذلك، أُدخلت تعديلات على الأرشفة القانونية عبر اعتماد الأرشفة الإلكترونية، بما يواكب المعايير العالمية في حفظ الوثائق.
إن السماح بإنجاز معاملات الكاتب العدل من خارج الأردن ليس مجرد تسهيل إجرائي، بل توسيع ذكي لسيادة القانون الأردني في الفضاء الرقمي العالمي. فهذه الخطوة تخدم الأردنيين في الخارج وتطمئن المستثمر الأجنبي، مما يعزز مكانة الأردن كبوابة إقليمية للاقتصاد الرقمي والخدمات القانونية العابرة للحدود.
وتكتمل الصورة بارتباط هذه الإصلاحات بدعم قطاع التكنولوجيا المالية (FinTech)، حيث تعتمد المؤسسات المالية والشركات الناشئة على الثقة في العقود والسجلات الرقمية. مبادرات، مثل تحدي التوقيع الرقمي للمؤسسات المالية (DiSiFi Challenge) الذي أطلقه البنك المركزي الأردني، تجد في هذه التشريعات الأرضية القانونية التي تحتاجها للابتكار المحلي من دون الاعتماد على حلول أجنبية.
إن تطبيق التوقيع الرقمي على الوثائق القضائية لم يعد فكرة مستقبلية، بل واقعاً بدأ يتشكل، استجابة لرؤية ولي العهد، وضمن جهود وطنية لتحسين جودة الخدمات العامة. وهكذا يصبح القضاء الرقمي الأردني ليس مجرد مشروع إصلاحي، بل استثماراً وطنياً طويل الأمد يعزز ثقة المواطن، ويمنح المستثمر رسالة واضحة: الأردن بلد يُبنى على العدل، ويصون الحقوق، ويواكب العالم بثقة، ليجعل من سيادة القانون محركاً حقيقياً للنمو والازدهار.