الغد
لا يُعقل أن تتخذ دولة تعاني من عجز مالي كبير، ومديونية متصاعدة، قرارات تمس أساسات إيراداتها العامة دون دراسة كافية أو مراجعة للنتائج المحتملة، إذ إن ما حدث في عام 2022 في ظل حكومة الخصاونة من تعديل النظام الجمركي وتخفيض الرسوم إلى أربع شرائح فقط كان بمثابة تصرف متهور غير محسوب، وهذا القرار لا يشبه شيئًا إلا القرار الذي اتخذته حكومة معروف البخيت في 2011 بشأن إعادة هيكلة رواتب القطاع العام، والذي كلف خزينة الدولة حوالي نصف مليار دينار.
قرار الحكومة السابقة بتخفيض الرسوم الجمركية لم يقدم أي نتائج إيجابية ملموسة، ولولا رفض غرف الصناعة وموقفها ضد القرار جملة وتفصيلا لكانت الرسوم بحدود الصفر، ومع ذلك فالإيرادات لم ترتفع، بل تراجعت والخسائر تجاوزت المليار دينار في ثلاث سنوات ما بين رسوم جمركية وضريبة المبيعات، والتهريب لم يتوقف، والمشكلات بقيت على حالها، وهذا القرار، الذي وصف بأنه "إصلاح للتعريفة الجمركية"، لم يكن سوى عبء جديد، فالحكومة خفّضت مستويات الرسوم من 16 إلى 4 مستويات فقط، تحت شعار الإصلاح والتحفيز، لكن الواقع أثبت العكس، فمع تنفيذ القرار، ارتفعت قيمة المستوردات غير النفطية من نحو 10.5 مليار إلى 13.7 مليار دينار، لأن السلع المستوردة أصبحت أرخص وأكثر جاذبية من المنتجات المحلية.
ما نتج عن ذلك كان كارثيًا: ضعف في تنافسية الصناعة الوطنية، وتراجع في الإيرادات الجمركية، وانخفاض كبير في حصيلة ضريبة المبيعات، خصوصًا بعد ارتفاع استيراد السيارات الكهربائية منخفضة الضريبة، ومع ذلك، لم تتحسن البيئة الجمركية، ولا الإجراءات، ولا الأداء.
والسؤال هنا، من المستفيد من هذه السياسات؟ ومن يتحمل هذه الخسائر؟ المواطن هو من يدفع الثمن، والخزينة تنزف.
نسبة المستوردات المعفاة من الرسوم ارتفعت من %88.6 إلى %89.3، ما يعني ضغطًا إضافيًا على المالية العامة، كل هذا يؤكد أن القرار اتُخذ دون دراسة كافية، تمامًا كما حدث مع قرار هيكلة القطاع العام في 2011، والنتائج متشابهة: خسائر بمئات الملايين، وقرارات لا تعود بالنفع على الاقتصاد، بل تُضعفه.
وعندما جاءت حكومة الدكتور جعفر حسان في أيلول 2024، كانت آثار القرار قد بدأت تظهر بوضوح، وفي تشرين الأول من نفس العام، قررت الحكومة تجميد المراحل التالية من القرار الجمركي، هذا التجميد لم يكن اختيارًا، بل ضرورة لوقف النزيف المالي، وحماية الصناعات الوطنية، ومراجعة شاملة للقرار.
هذا القرار، الذي يفترض أنه مدروس، تحول إلى جريمة حقيقية بحق الاقتصاد، وكأن الأردن أصبح حقل تجارب، تُجرّب فيه السياسات دون حساب، ويُترك المواطن ليتحمل الفاتورة، إذ إن مئات الملايين من الخسائر نتيجة قرارات إدارية خاطئة، من يتحملها؟ لا أحد يُحاسب، والمواطن يبقى الضحية.
ما جرى لا يمكن أن يُعتبر إصلاحًا، إنه نموذج لتغييب الرؤية الاقتصادية الشاملة، واتخاذ قرارات منفصلة عن الواقع، دون تقدير لحجم الإعفاءات الجمركية القائمة أصلًا، ودون مراعاة للصناعات المحلية. الحكومة الحالية جمدت القرار، لكن الضرر وقع، والخسائر فادحة.
هذه ليست سياسة جمركية، بل سياسة عبثية، فالقرار خفض الرسوم دون أن يخفض العجز، أضر بالصناعة دون أن يحد من التهريب، رفع الاستيراد دون أن يرفع الإنتاج أو التوظيف، والنتيجة: اقتصاد مثقل بالخسائر، ومواطن مثقل بالأعباء، وخزينة تنزف.
أي جريمة ارتُكبت بحق الاقتصاد؟ ومن يحاسب؟ وهل يمكن إصلاح ما أُفسد بقرار واحد؟ المطلوب ليس فقط الاستمرار بالتجميد، بل الاعتراف بالخطأ، وتغيير نهج اتخاذ القرار الاقتصادي، لأن الكلفة هذه المرة كانت باهظة، وربما لا تُحتمل إذا تكررت.
المطلوب إعادة النظر بهذا القرار العبثي والعودة إلى هيكل الرسوم الجمركية بما قبل 2022.