الغد-د. حمزه العكاليك
لم يعد مفهوم العدالة مرتبطا بجدران المحاكم أو أكوام الأوراق. في الأردن اليوم، نحن أمام تحول استراتيجي يعيد تعريف القضاء ويضعه على سكة المستقبل: العدالة الرقمية. فحين يرتبط التوقيع القضائي بالهوية الرقمية عبر منصة "سند"، ويتكامل مع نظام الميزان والتشريعات القضائية، تتحول الثقة من مجرد قيمة معنوية إلى ضمانة قانونية ملموسة. هذه الخطوة ترفع التوقيع الأردني إلى مستوى التوقيع الرقمي المؤهل (Qualified/Advanced E-Signature) المعتمد عالمياً، بما يرسخ مبدأ عدم الإنكار ويقلص الطعون، ويختصر أمد التقاضي، ويجعل العقود الرقمية أكثر قوة ونفاذا.
هذا التوجه ليس نظريا؛ فالتجارب الإقليمية تثبت جدواه. فقد حققت محاكم دبي رقمنة شبه كاملة لخدمات الكاتب العدل بنسبة 99.36 %، عبر مسارات إلكترونية سريعة من دون تدخل بشري في بعض المعاملات، مع توفير قنوات متعددة مثل الموقع الرقمي والفروع العامة ومكاتب الكاتب العدل الخاص. تجربة ملهمة تبرهن على أن القضاء الرقمي ليس مجرد فكرة، بل مسارا عمليا يمكن أن يتحول إلى واقع متين إذا ما توافرت الإرادة التشريعية والتقنية.
لكن كل نقلة نوعية تحمل في طياتها تحديات معقدة. فكلما توسعت الرقمنة، ازدادت المخاطر المتعلقة بالخصوصية والأمن السيبراني. إذ إن استدامة الثقة في العدالة الرقمية مرهونة بقدرة الدولة على حماية البيانات من الاختراق، وضمان أن تبقى المنظومة الرقمية حصنا آمنا لا ثغرة فيه. وهنا تبرز الحاجة إلى رقمنة مسار التقاضي في الجرائم الإلكترونية، لا الاكتفاء بالإجراءات الإدارية. فالضحايا كثيرا ما يحجمون عن اللجوء إلى المحاكم بسبب طول الإجراءات وصعوبة ملاحقة الأموال العابرة للحدود. ولذلك فإن النجاح الحقيقي للتحول القضائي لن يكتمل إلا بتسريع التحقيق والبت في قضايا الاحتيال والأمن السيبراني، بما يضمن استرداد الحقوق بكفاءة ويعزز الثقة بالاقتصاد الرقمي.
وأما الأثر الاقتصادي لهذا التحول، فلا يقل أهمية. فالتحول الرقمي القضائي هو استثمار استراتيجي ينعكس مباشرة على بيئة الأعمال. فإقرار التعديلات التي تسمح بإبرام العقود إلكترونيا، واعتماد التوقيع عن بعد، والحصول على الوثائق الرسمية رقميا، يعني خفضا كبيرا في تكاليف الاحتكاك وزيادة سرعة إنجاز المعاملات. وهذه التسهيلات توفر بيئة مثالية للشركات الناشئة، خصوصا في قطاع التكنولوجيا المالية (FinTech)، الذي يشهد زخما بفضل سياسات البنك المركزي. وهنا تتضح الرؤية: القضاء الرقمي ليس إصلاحا قانونيا فحسب، بل حافزا لنمو الاقتصاد وريادة الأعمال.
وأما على المستوى الدولي، فإن وجود إطار قانوني محكم وشفاف يشكل عاملا أساسيا في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI). المستثمر العالمي يبحث عن بيئة توفر وضوحا في الحقوق، سرعة في التقاضي، وحماية للعقود الرقمية. والإصلاحات الأخيرة، تعزز سجل الضمانات المركزي وتحسن مؤشرات الأردن في سهولة الحصول على الائتمان، مما يرفع مكانته على خريطة التنافسية الدولية. وفي ظل منافسة إقليمية محتدمة لاستقطاب الشركات العملاقة مثل أمازون ومايكروسوفت وسيسكو، فإن امتلاك الأردن لبنية قضائية رقمية قوية، يعد ميزة تفاضلية تعطيه الأفضلية.
ومع ذلك، يظل النجاح مرهونا بسرعة التحرك في مجال التعليمات التنفيذية. فالتأخر في إصدار أنظمة ترخيص جهات التوثيق الإلكتروني قد يخلق فجوات قانونية تُربك التطبيق العملي. كما أن التبني الشامل لهذه الأدوات يحتاج إلى شراكة حقيقية مع نقابة المحامين، القضاة والموظفين، لضمان الانتقال الكامل للنظام الرقمي. إن أي ازدواجية بين الورقي والرقمي ستضاعف التكاليف بدلا من تقليلها. لذلك، يصبح التدريب المستمر والمتخصص في فقه الأدلة الإلكترونية أولوية لضمان فاعلية المنظومة.
وقد وضعت وزارة العدل الأردنية، عبر تعديل قوانين المعاملات الإلكترونية والكاتب العدل وتفعيل التوقيع الرقمي، أسس تحول نوعي في العدالة. فهذه الإصلاحات تجعل القانون أداة تمكين للثورة الرقمية، وترسل رسالة واضحة للمجتمع والمستثمرين: العدل في الأردن لم يعد ورقيا ولا بطيئا، بل خدمة رقمية سريعة وموثوقة.
ومع أن الطريق ما يزال مليئا بالتحديات، فإن الأفق واعد. إذا ما اقترنت هذه التشريعات بأنظمة تنفيذية دقيقة، وحوكمة بيانات صارمة، وأمن سيبراني راسخ، فسيمتلك الأردن منظومة قضائية رقمية لا تعزز ثقة المجتمع فقط، بل تجعل العدالة ركيزة أساسية لازدهار الاقتصاد الوطني، ومحركا لاستقطاب الاستثمارات العالمية، ودرعا لحماية الابتكار وريادة الأعمال.