الأحبار
تحوّلت عائلة ترامب إلى الكريبتو بعد أزمة علاقتها بالمصارف عام 2021. صارت العملات المشفّرة أداة لتجميع الثروة وتوسيع النفوذ السياسي، ورمزاً لتحالف جديد بين رأس المال الشعبوي والتكنولوجيا
منذ اللحظة التي أغلقت فيها المصارف الأميركية عشرات الحسابات المرتبطة بعائلة الرئيس دونالد ترامب مطلع عام 2021، انطلقت الشرارة الأولى لتحوّل غير مسبوق في مسار هذه العائلة. بالنسبة إلى إريك ترامب، الابن الأوسط، شكّل الأمر صدمةً شخصية: المصارف التي تشكّل عصب الاقتصاد الأميركي أعلنت عملياً أنّها قادرة على استبعاده وأسرته من النظام المالي بقرار إداري. عندها، قرّر أن يبحث عن باب جديد خارج سلطة البنوك، فقادته المصيبة مباشرة إلى عالم العملات المشفّرة.
الكريبتو ظهر له ملاذاً وفرصة في آن واحد. هذا المجال بُني على فكرة بسيطة لكن ثورية: نظام مالي غير خاضع للبنوك التقليدية، يُدار عبر شبكة موزعة من الحواسيب، ويتيح لأي شخص امتلاك أصول رقمية من دون إذن من مصرف أو دولة.
هكذا بدأ إريك يقدّم نفسه على أنه حامل راية «الحرية المالية» في مواجهة ما وصفه بـ «الوصاية المصرفية». في مقابلة مع صحيفة «وول ستريت»، قال: «المصارف استهدفتنا، والكريبتو فتح لنا باباً جديداً».
بعد أحداث اقتحام الكونغرس في 6 كانون الثاني (يناير) 2021، حين اهتزّت صورة الرئيس ترامب السياسية والمؤسساتية، سعى ابنه إلى تحويل الضجيج إلى مشروع بديل. وصار الكريبتو بالنسبة إلى القاعدة الشعبية المحافظة عنواناً للتمرّد على مؤسسات الدولة العميقة.
وتكرّس هذا التوجّه عبر تغريدات الملياردير إيلون ماسك حول البتكوين وعملة دوج كوين، إضافةً إلى إصدار ترامب نفسه رموزاً رقمية تحمل صوراً له.
غير أنّ الحدث المفصلي الحقيقي كان تبنّي دونالد ترامب العملات المشفّرة خلال حملته الانتخابية الأخيرة، ودعم مجتمع الكريبتو له بعد وعده بجعل الولايات المتحدة عاصمة العملات المشفّرة. وما إن دخل البيت الأبيض، حتى دفع الرئيس نحو أمر تنفيذي يطالب الجهات الناظمة بالتحقيق في أي انحياز سياسي أو ديني قد تمارسه البنوك ضد عملائها.
منحه ذلك أفضليةً مزدوجة: من جهة، قدّم نفسه حامياً للناس من تحيّز البنوك السياسي أو الديني، فاستمال القاعدة المحافظة التي ترى في المؤسسات المالية أداةً للنخب. ومن جهةٍ ثانية، زعزع ذلك الثقةَ بالنظام المصرفي التقليدي، ففتح المجال أمام الكريبتو ليكون بديلاً «حرّاً».
على هذا الأساس، أطلق إريك مع أشقائه شركة «ورلد ليبرتي فايننشال» World Liberty Financial. جمع المشروع بين شكلين أساسيين من الأدوات المالية الرقمية:
• WLFI: رمز حوكمة (Token) يتيح للمستثمرين المشاركة في القرارات.
• USD1: عملة مستقرة (Stablecoin) مربوطة بالدولار، قيمتها تساوي دائماً دولاراً واحداً.
لتبسيط الأمر: التوكن يشبه سهماً صغيراً في شركة ناشئة، بينما العملة المستقرة أشبه بنسخة رقمية من الدولار. الجمع بينهما يخلق اقتصاداً داخلياً يمكن للعائلة أن تديره خارج سلطة البنوك.
المهم، سرعان ما انضم لاعبون كبار. الملياردير الصيني جاستن صن، مالك شبكة بلوك تشاين «ترون»، ضخ استثمارات كبيرة. مؤسسة إماراتية تدعى Aqua 1 دخلت بمئة مليون دولار، وهو حضور لافت لأنّ الإمارات لم تكن ناشطة بقوة في هذا القطاع. بالتوازي، اندفعت العائلة نحو تعدين البتكوين، وأطلقت شركة American Bitcoin بالتعاون مع شركة ناشئة متخصصة بمراكز البيانات. إريك نفسه طار إلى أبو ظبي وظهر على منصة أول مؤتمر مخصّص للبتكوين هناك، ليقدّم نفسه بصفته الوجه التقني للعائلة.
لكن المشروع لم يتوقف عند هذا الحد. قرّر آل ترامب ركوب موجة «عملات الميم» التي تحظى بشعبية على الإنترنت، فأطلقوا عملة جديدة تحمل الرمز $TRUMP قبل أيام من بدء الولاية الثانية للرئيس. ارتفعت قيمتها السوقية إلى نحو 15 مليار دولار خلال مدة قصيرة قبل أن تهبط سريعاً.
إريك دافع عن التجربة قائلاً إن الهدف هو إدخال القاعدة الشعبية إلى عالم العملات الرقمية الكبرى مثل بتكوين وإيثريوم. غير أن «عملات الميم» معروفة بأنها أقرب إلى المقامرة: ترتفع فجأة لتغني قلّة من الداخلين باكراً، ثم تنهار تاركةً خلفها جيوشاً من الخاسرين. وهذا ما حصل مع قاعدة ترامب.
القصة لم تنتهِ هنا. دخلت العائلة في صفقة مع شركة Alt5 Sigma المدرَجة في البورصة. شركة «ورلد ليبرتي فايننشال» سلّمت Alt5 رموز WLFI. وبتمويل من مستثمرين خارجيين، جمعت Alt5 نحو 750 مليون دولار لشراء هذه الرموز من المصدر نفسه.
النتيجة أنّ العائلة قبضت نصف مليار دولار تقريباً. اللافت أنّ زاك ويتكوف، نجل المطوّر العقاري وصديق ترامب القديم ستيف ويتكوف، أصبح رئيس مجلس إدارة Alt5، فيما انضم إريك ترامب إلى المجلس. هكذا انتقلت التحالفات القديمة من العقارات إلى الكريبتو. أثارت العملية الكثير من الشبهات. خبراء قانونيون وصفوا ما جرى بأنه «بيع للنفس عبر واجهة». فالشركة باعت عملتها لشركة أخرى مرتبطة بها، مستخدمة أموالاً من مستثمرين خارجيين، ثم أعلنت أنّ قيمة الرمز ارتفعت.
على إثر ذلك، تدخل البيت الأبيض عبر المتحدثة كارولاين ليفيت ليؤكد أنّ لا تضارب مصالح، وأن أعمال العائلة تبقى منفصلة عن القرارات الحكومية.
مع ذلك، النتائج كانت صادمة. في أول يوم تداول للرمز WLFI، سجّلت البورصات ما يقرب من مليار دولار من حجم التداول، وتراوح السعر بين عشرين وثلاثين سنتاً. في ليلة واحدة، قفزت ثروة آل ترامب إلى نحو خمسة مليارات دولار، إضافة إلى حصصهم في $TRUMP وشركة «ترامب ميديا» المالكة لمنصة «تروث سوشال». الرئيس نفسه امتلك ثلثي حصته مباشرة، بينما سيطرت العائلة مجتمعة على ربع العملات.
إلى جانب ذلك، ابتكر المشروع آلية وصفها المطوّرون بـ«الضغط الدائم». إذ جرى ربط أرباح العملة المستقرّة USD1 بعمليات شراء تلقائي لرمز WLFI. أي إنّ كل استخدام لـUSD1 يولّد طلباً جديداً على WLFI، ما يضمن بقاء السعر مرتفعاً أو في اتجاه صعودي. اعتبر كثيرون هذه مجرد حلقة مغلقة: الشركة تصنع عملة أولى وتستعمل أرباحها لشراء عملة ثانية، فتبدو السوق ناشطة بينما التمويل يأتي من المصدر نفسه.
لفهم خطورة هذا النموذج، يكفي النظر إلى تجربة شركة «مايكروستراتيجي» التي ارتبط اسمها بمصطلح «خلل المال اللامحدود». اعتمد على إصدار أسهم جديدة أو الاستدانة لشراء مزيد من البتكوين. ومع ارتفاع قيمة السهم بفعل هذه المشتريات، صارت قادرة على إصدار أسهم إضافية، فتضاعفت الثروة على نحو دائري. لكن الفارق أنّ «مايكروستراتيجي» اشترت أصلاً رقمياً هو البتكوين، بينما آل ترامب يبنون الثروة عبر رموز من إنتاجهم الخاص، ما يرفع درجة المخاطرة إلى أقصى الحدود.
هنا يطرح السؤال نفسه: هل يقتنع جمهور تيّار «ماغا» أنهم أمام مشروع لتحرير الناس من سلطة المصارف، أم أمام هندسة مالية معقّدة لتضخيم ثروة عائلة واحدة؟ الوقائع تميل إلى الاحتمال الثاني. في كل خطوة يظهر كيف تُدار السوق بأدوات مغلقة لا تختلف كثيراً عن حِيَل البنوك التي صُمم الكريبتو أصلاً لمواجهتها.
الكريبتو وُلد عام 2009 مع البتكوين ليكون ثورة ضد النظام المالي الذي سرق قيمة المال وترك ملايين الناس بعد أزمة 2008 بلا بيوت ولا مدّخرات. كان الوعد أن يخلق نظاماً أكثر عدلاً، شفافاً ومفتوحاً. لكن مع تدخل الشركات الكبرى في السنوات الماضية، وآل ترامب أخيراً، تحوّل المشروع من أداة مقاومة إلى وسيلة لاحتكار الثروة.
ما كان يُفترض أن يكون سلاحاً بيد الناس صار كارتيلاً عائلياً جديداً، يراكم المليارات وينتقم من المصارف عبر منطق البنوك نفسها: تركيز المال بيد القلّة وتحميل المخاطر للجمهور. وهنا تكمن المفارقة الأكبر: بدلاً من أن يفتح الكريبتو نافذةً على حرية مالية جماعية، صار عند آل ترامب باباً آخر للهيمنة، يُزيّن بخطاب الحرية، ولكنه يُدار وفقاً لمنطق السوق النيوليبرالية نفسها التي وعد ذات يوم بأن يتجاوزها.