الغد
ضبط النفقات الرأسمالية ضرورة لا بد منها، خاصة في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها المنطقة، وفي الوقت الذي تعاني فيه موازنات الدول من ضغوط متعددة، يصبح الإنفاق العام، وتحديدًا الرأسمالي، تحت المجهر، والسؤال الجوهري: هل هذا الإنفاق يحقق قيمة حقيقية؟ وهل يساهم فعليًا في النمو الاقتصادي وتوليد فرص العمل؟ أم أنه مجرد أرقام لا تترجم إلى تحسن فعلي في حياة المواطن؟
الحكومة الحالية تنتمي إلى مدرسة تؤمن بالالتزام بتنفيذ الإنفاق الرأسمالي وفق ما هو مقرر في قانون الموازنة، وهذه المدرسة صحيحة تمامًا من حيث المبدأ، لكنها تُصبح موضع جدل عندما لا تخضع المشاريع المعتمدة لتقييم اقتصادي صحيح، فالمشروع الرأسمالي الحقيقي هو ذلك الذي يولد دخلاً مستدامًا، ويخلق وظائف، ويرفع كفاءة الإنتاج، ويضيف قيمة نوعية للاقتصاد، ولذلك أي مشروع لا يحقق هذه الشروط هو ببساطة إنفاق غير مبرر.
فما الجدوى من إنشاء مبانٍ لا تتوافر لها كلف التشغيل والصيانة؟ وما الفائدة من مشاريع إنشائية لا ترتبط بسلاسل قيمة إنتاجية ولا تخلق نشاطًا اقتصاديًا حقيقيًا؟ فهل يمكن الاستمرار في هذا النوع من الإنفاق في ظل أوضاع إقليمية مضطربة ونمو نفقات الدفاع والحماية الاجتماعية بشكل كبير؟
النزاع العسكري في المنطقة فرض أولويات جديدة، فالحاجة لتعزيز الإنفاق على الدفاع والأمن لم تعد خيارًا بل ضرورة، كذلك، لابد من زيادة مخصصات الحماية الاجتماعية، فهنالك معطيات في الساحة تفرض ان يصبح تأجيل بعض المشاريع الرأسمالية وتحويل مخصصاتها إلى مسارات أكثر إلحاحًا، قرارًا مسؤولًا، وليس تراجعًا عن الالتزام بالموازنة.
في أرقام عام 2025، يتبين أن مشاريع الوزارات والدوائر الحكومية تستحوذ على 627 مليون دينار، أي 43 % من مجمل النفقات الرأسمالية، بينما تبلغ مخصصات مشاريع رؤية التحديث الاقتصادي 242 مليون دينار، أي 17 %، مع العلم أنه تم تخفيض هذه الأخيرة في إعادة التقدير لعام 2024 بقرار من مجلس الوزراء بمقدار 119 مليون دينار.
أما مشاريع الأجهزة العسكرية والأمن والسلامة العامة فبلغت 253 مليون دينار (17 %)، وتنمية وتطوير البلديات 180 مليون دينار (12 %)، ومشاريع المحافظات 136 مليون دينار (9 %).
هذه الأرقام تطرح تساؤلات: هل الأولويات موزونة بشكل يعكس الواقع الاقتصادي والاجتماعي؟ هل المشاريع المخططة ذات جدوى واضحة؟ هل تم تقييمها بناءً على دراسات اقتصادية حقيقية، أم أنها مجرد استحقاقات بيروقراطية؟
الواقع يتطلب إعادة تقييم شاملة لهياكل الإنفاق الرأسمالي، بحيث يتم فرز المشاريع إلى: مدرة للدخل وذات قيمة مضافة (ويُدعم تنفيذها)، مقابل مشاريع غير منتجة (ويُعاد تبويبها أو تأجيلها)، فلا يمكن تحميل الاقتصاد الوطني كلفة مشاريع غير ناضجة اقتصاديًا، بينما تزداد الحاجة إلى توجيه الموارد لمواجهة تحديات الأمن والاستقرار والمعيشة.
ضبط النفقات الرأسمالية ليس تقليصًا أو انكماشًا، بل هو ترتيب للأولويات وتحكيم للعقل في تخصيص الموارد، وهذا ما تحتاجه المرحلة الحالية: واقعية، وانضباط مالي، وجرأة في اتخاذ القرارات الصعبة.