أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    22-Sep-2025

العقوبات كحرب حضاراتية: الجنوب سيرسم ملامح النظام ما بعد الغربي

 الغد

بيمان صالحي* - (فورين بوليسي إن فوكَس) 15/9/2025
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
يولّد منطق الحرب الحضاراتية مقاومة على المستوى الحضاري نفسه. في الأساس، تتشارك أمم الجنوب العالمي، على تنوعها تاريخًا وأيديولوجيا، خبرة الاستبعاد والإكراه. ومن خلال مهاجمة الأساس المادي لمجتمعاتها، عززت العقوبات أشكالًا جديدة من التضامن بينها.
 
 
كثيراً ما يصف القادة الغربيون العقوبات الاقتصادية بأنها أدوات سلمية للدبلوماسية، وبدائل أخف وطأة من الصراع العسكري. لكن الواقع يكشف أن العقوبات تحوّلت إلى واحد من أكثر الأسلحة تدميرًا في الجيوسياسة الحديثة. إنها لا تُقتصر على استهداف الحكومات أو النخب وحدها، بل تنال بصورة منهجية من الحياة اليومية لشعوب بأكملها. من خلال تقييد الوصول إلى الدواء والغذاء والموارد المالية والتجارة، تؤدي العقوبات وظيفة سلاح العقاب الجماعي. وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون أدوات محايدة في القانون الدولي، حيث تطورت فعليًا إلى شكل من أشكال الحرب الحضارية: وسيلة يفرض بها الغرب الامتثال الأيديولوجي على الآخرين، ويقمع بها كل مقاومة لهيمنته العالمية.
يكشف تاريخ العقوبات عن جذورها التي تعود إلى ممارسات أقدم للإكراه. وقد استخدمت القوى الاستعمارية الحصار لتجويع الشعوب حتى تستسلم. وأدى الحصار البريطاني لألمانيا إبان الحرب العالمية الأولى إلى مجاعة واسعة النطاق، تمامًا كما استهدف الحصار الأميركي ضد كوبا بعد العام 1960 معاقبة أمة بأكملها لأنها أعلنت استقلالها. وفي حقبة ما بعد الحرب الباردة، أصبحت العقوبات عنصرًا مركزيًا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة وحلفائها. ثمة العراق في تسعينيات القرن الماضي، وإيران منذ ثورة العام 1979، وفنزويلا خلال العقد الماضي، ومؤخرًا روسيا -جميعها تعرضت لقيود شاملة. وكانت النتائج متشابهة: انهيار العملات؛ وانكماش الاقتصادات؛ ونقص في السلع الأساسية؛ وتفاقم الفقر. وعلى الرغم من أن العقوبات كثيرًا ما يجري تسويقها باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنها دائمًا ما تمسّ، بشكل غير متناسب، المدنيين العاديين، بينما تُرسّخ النزعات السلطوية 
في الدول المستهدفة.
ولا يظهر منطق العقوبات الحضاراتية بوضوح أكثر من ظهوره في غزة. منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، فرضت إسرائيل، بدعم من الحكومات الغربية، حصارًا يقيّد بشدة تدفق الكهرباء والوقود والغذاء والإمدادات الطبية على أكثر من مليوني فلسطيني. ولم يكن هذا الحصار مصمّمًا لتغيير سياسة حكومة ما بالمعنى الضيق، بل كان وسيلة لكسر إرادة شعب بأسره، وجعل الحياة الجماعية غير محتملة، وفرض فكرة أن بعض الشعوب يمكن حرمانها من الكرامة والبقاء من دون عواقب. هذا هو جوهر الحرب الحضارية: تقرير أي المجتمعات يُعتبر شرعيًا وأيها يُحكم عليه بالاحتواء والحرمان والتدمير التدريجي.
ومع ذلك، تبقى الصورة أكثر تعقيدًا من مجرد انقسام بين الغرب والجنوب العالمي. ليست روسيا، على سبيل المثال، جزءًا من الجنوب العالمي، وقد سعت في مطلع الألفية الجديدة إلى عقد شراكة مع الغرب. وعندما أُغلق هذا الباب، أعادت موسكو تدريجيًا تعريف نفسها باعتبارها متحديًا للهيمنة الغربية. وعلى الرغم من أن روسيا -وحتى الصين- لم تتحملا التكاليف الباهظة التي دفعتها دول مثل إيران أو فاعلون مقاومون آخرون من أجل التعددية القطبية، دفعت الحرب في أوكرانيا روسيا إلى خط المواجهة مع الهيمنة الغربية.
وتبرز غزة بُعدًا آخر أيضًا: بينما تبقى الحكومات الغربية متحالفة مع إسرائيل، فإن المزاج الشعبي يحكي قصة مختلفة. منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وضعت الاحتجاجات وتجليات السخط الأخلاقي ضغوطًا على الحكومات الأوروبية، بل وأدت إلى استقالات وزارية في أماكن مثل هولندا. ولا يرقى هذا إلى أن يكون استراتيجية دولية منسجمة ضد إسرائيل، لكنه يكشف أن العقوبات والحصارات أصبحت تتصادم على نحو متزايد مع الضمير الإنساني الكوني.
بالإضافة إلى الحكومات، استجابت منظمات المجتمع المدني أيضًا من خلال "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS)، التي تسعى إلى فرض كلفة اقتصادية وثقافية على إسرائيل. وعلى عكس العقوبات التي تفرضها الدول، تمثل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات شكلًا من "العقوبات العكسية"؛ استراتيجية يستخدمها الضعفاء نسبيًا لمحاسبة الأقوياء. ويؤكد رواجها العالمي أن العقوبات ليست مجرد أدوات للهيمنة، وأنها يمكن أن تتحول أيضًا إلى أدوات للمقاومة.
كما تجلت التناقضات التي تنطوي عليها العقوبات خلال حقبة ترامب، حيث دعت بعض الأصوات التقدمية حتى إلى فرض عقوبات على الولايات المتحدة نفسها. والمفارقة هنا لافتة: أصبحت واشنطن، التي طالما قدمت نفسها كحامية للمبادئ الليبرالية التي جذبت ذات يوم المنشقين من المعسكر السوفياتي، تُرى كقوة تُقوّض تلك المبادئ ذاتها. وشكل جدار ترامب على الحدود المكسيكية ونهجه الأيديولوجي في السياسة الخارجية ابتعادًا عن الشمولية التي وعدت بها الليبرالية. على النقيض من ذلك، تقدم الصين -على الرغم من سلطويتها داخليًا- علاقاتها الخارجية في إطار من التجارة والتعاون البراغماتي، وهو ما يقترب في الممارسة من الرؤية الليبرالية لآدم سميث أكثر من موقف واشنطن الذي يصبح إقصائيًا باطراد. هذه الانعكاسات توحي بأن أزمة الليبرالية ليست خارجية فحسب، بل داخلية في الغرب نفسه أيضًا.
تفضح العقوبات التناقضات التي ينطوي عليها النظام الليبرالي. ففي حين تقدم الليبرالية نفسها كحارس للحقوق العالمية والأسواق الحرة والمساواة الإنسانية، تكشف العقوبات عن الطابع الانتقائي والإقصائي لهذا الخطاب. عندما تستطيع الولايات المتحدة أن تجمِّد من طرف واحد الاحتياطات المالية لأفغانستان، أو تصادر عائدات النفط الفنزويلية، أو تفصل البنوك الإيرانية عن النظام المالي العالمي، يتضح أن التمويل الدولي ليس مجالًا محايدًا وإنما سلاح يستخدمه الأقوياء ضد الأضعف، يتم إلباسه ثوب الشرعية بلغة القانون بينما يؤدي عمليًا وظيفة الهيمنة. وتنهار دعوى الليبرالية بالكونية حين تقوم بإفقار مجتمعات بأكملها عمدًا باسم الليبرالية.
من المفارقات أن العقوبات تُسرّع التحولات التي يُفترض فيها أن تمنعها. بدلًا من الحفاظ على الهيمنة الغربية، تُعجّل العقوبات بانحسارها. في مواجهة الاستبعاد من الشبكات القائمة على الدولار، تتجه العديد من دول الجنوب العالمي إلى ترتيبات بديلة. توسع تجمع "بريكس"، وتزايد نفوذ "منظمة شنغهاي للتعاون"، وأشكال جديدة من التعاون بين دول الجنوب، كلها مساعٍ لتقليل الاعتماد على الأنظمة الخاضعة للغرب. وتتبادل روسيا والصين على نحو متزايد بعملاتهما الوطنية، وإيران انضمت إلى منظمة شنغهاي، وتتجه حتى دول كانت تقليديًا حليفة للغرب -مثل السعودية- إلى استكشاف شراكات جديدة. وتشير هذه التطورات إلى تكيف براغماتي واضح، لكنها تشير أيضًا إلى رفض أعمق لافتراض أن الغرب وحده يمكنه تحديد قواعد النظام العالمي.
وهكذا، يولّد منطق الحرب الحضاراتية مقاومة على المستوى الحضاراتي نفسه. في الأساس، تتشارك أمم الجنوب العالمي، على تنوعها تاريخًا وأيديولوجيا، خبرة الاستبعاد والإكراه. ومن خلال مهاجمة الأساس المادي لمجتمعاتها، عززت العقوبات أشكالًا جديدة من التضامن. وهي تشجع على تخيل مستقبل متعدد الأقطاب، لا يحتكر فيه أي تكتل الشرعية أو الوصول إلى المشاعات العالمية. وعلى الرغم من أن ملامح هذا النظام ما تزال غير مؤكدة، فإن بروزه بحد ذاته يدل على أن الإكراه يخلق بدائل. كلما لجأت واشنطن وبروكسل إلى العقوبات، دفعت الآخرين إلى ابتكار اصطفافات جديدة وأدوات مالية وسرديات سياسية مغايرة.
لا يعني هذا قول إن النظام ما بعد الغربي سيكون خاليًا من التناقضات أو المظالم. إن التعددية القطبية لا تضمن العدل تلقائيًا، لكنها تشكل تحولًا جذريًا: الاعتراف بأن احتكار الغرب لتحديد القواعد وفرض الامتثال في طريقه إلى التآكل. وقد أبرزت العقوبات، التي يُراد بها تأديب الدول المتمرّدة، في المقابل هشاشة القيادة الغربية وحدود ادعاءاتها الأيديولوجية. وهي تعرّي نظامًا مستعدًا للتضحية بكرامة الإنسان من أجل تحقيق مكاسب جيوسياسية. وهي تعزز بذلك عزيمة الذين يسعون إلى مسار مختلف.
اليوم، تشكّل العقوبات ساحة معركة تواجه فيها الحضارات بعضها بعضًا من دون حرب مفتوحة. وهي تُسخّر الاقتصاد لفرض تراتبيات للقيمة، تقرر من تُتاح له الحياة الكريمة ومن يُحكم عليه بالتهميش. ومع ذلك، يحمل هذا العنف بذور التحول. بكشفها تناقضات الليبرالية وإجبارها الجنوب العالمي على تخيل بدائل، قد تسهم العقوبات في نهاية المطاف في ولادة نظام جديد. ولا يتعلق النضال ضدها بالسيادة أو البقاء فقط، بل بإعادة تعريف مبادئ العدالة والتعايش في عالم متعدد الأقطاب. وما يزال المآل النهائي مجهولًا، لكن ثمة درسًا واحدًا أصبح واضحًا: أن الحرب الحضارية عن طريق العقوبات لا تستطيع أن تقمع إلى ما لا نهاية تطلعات المجتمعات التي تطالب بالكرامة والاستقلال، وبمستقبل متحرر من الهيمنة الغربية.
 
*بيمان صالحي Peiman Salehi: محلل سياسي وكاتب يركز في كتاباته وأبحاثه على الفلسفة السياسية والعلاقات الدولية، خاصة قضايا المقاومة الحضارية والتعددية القطبية والنقد الأيديولوجي للنهج الليبرالي والسرديات المهيمنة الغربية. تُنشر أعماله في طيف متنوع من المنابر الدولية المرموقة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Sanctions as Civilizational Warfare