الغد- د. مروة بنت سلمان آل صلاح
في لحظات التحول الكبرى، لا تقاس قوة الأمم بما تملك من مساحات جغرافية أو موارد طبيعية، بل بما تحسن صياغته من رؤى قادرة على تحويل المستقبل من احتمال ضبابي إلى واقع ملموس. نحن اليوم نعيش في زمن لم يعد فيه الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية حديثة، بل تحول إلى أداة لإعادة تشكيل القيم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى أصبح يشبه قلبا نابضا يضخ الدماء في جسد الحضارة المعاصرة. وفي وسط هذا المشهد الكوني، ينهض السؤال الذي يتطلب إجابة جريئة: كيف يمكن للأردن أن يحجز مقعده بين صناع هذه الثورة لا بين مقلديها؟
إن الإجابة تبدأ بفكرة تأسيس هيئة رقمية متخصصة للذكاء الاصطناعي، هيئة لا تكون جهازا بيروقراطيا جديدا يضاف إلى ركام المؤسسات، بل عقل دولة متكامل يعيد تنظيم الرؤية، ويوحد المبادرات، ويحول التشتت الفردي إلى مشروع وطني متماسك. هذه الهيئة هي بمثابة إعلان دخول الأردن إلى زمن السيادة الرقمية، زمن لا يتحدد فيه النفوذ بعدد الجيوش أو حجم النفط، بل بقدرة الدول على إنتاج الخوارزميات وحماية بياناتها وتطوير نماذجها الذكية بما يتناسب مع هويتها وتطلعاتها.
الذكاء الاصطناعي ليس قطاعا منفصلا يمكن عزله في زاوية من الاقتصاد، بل هو منظومة تمتد خيوطها في كل اتجاه. فهو الذي يعيد تعريف التعليم من خلال الفصول الافتراضية، ويعيد هندسة الرعاية الصحية عبر التشخيص التنبؤي، ويحول الزراعة إلى مختبر ذكي يقيس التربة ويقترح التوقيت المثالي للري، ويجعل من النقل تجربة قائمة على التنبؤ بالازدحام وتوفير الطاقة. وحين يصبح كل ذلك حقيقة واقعة، تبرز الحاجة إلى مركز وطني قادر على إدارة هذا النسيج الهائل بوعي استراتيجي، يضمن أن لا تتحول هذه الأدوات إلى عبء أو تهديد، بل إلى فرصة حقيقية للنهضة.
إن إنشاء هيئة رقمية للذكاء الاصطناعي سيمنح الأردن القدرة على الانتقال من مرحلة التلقي السلبي إلى مرحلة الإنتاج والتأثير. هذه الهيئة ستكون المرجعية العليا لوضع السياسات الرقمية، وستمتلك السلطة الكافية لإصدار تشريعات تنظم ملكية البيانات، وتضع معايير أخلاقية لاستخدام الخوارزميات، وتحدد الإطار القانوني للاستثمار في التكنولوجيا الذكية. بهذا الشكل، لا يبقى الأردن تابعا لما يفرض عليه من الخارج، بل يصبح قادرا على صياغة نموذجه الخاص الذي يجمع بين الخصوصية الوطنية والانفتاح على الشراكات الدولية.
الهيئة المقترحة ليست مجرد جهاز رقابي، بل حاضنة للإبداع والابتكار. يمكنها أن تؤسس مراكز بيانات وطنية تحفظ السيادة الرقمية للدولة وتضمن معالجة المعلومات داخل حدودها، كما يمكنها أن ترعى منصات ابتكار افتراضية تسمح للشباب باختبار أفكارهم في بيئات محاكاة متقدمة قبل نقلها إلى السوق الواقعية. ومن خلال التعاون مع الجامعات المحلية والدولية، ستصبح الهيئة جسرا يربط المعرفة الأكاديمية بتطبيقات السوق، فتتحول الأفكار من بحوث نظرية إلى منتجات تجارية تنافس على المستوى العالمي.
ولعل أحد أهم الأبعاد التي يجب أن تركز عليها هذه الهيئة هو إعادة توزيع الفرص الرقمية بشكل عادل بين المركز والأطراف. فالتقنيات الذكية قادرة على جعل التعليم متاحا للأطفال في القرى النائية بجودة تضاهي كبرى المدارس في العاصمة، وقادرة على توفير استشارات طبية افتراضية لمرضى يعيشون في مناطق بعيدة عن المستشفيات الكبرى، كما تستطيع أن تجعل الزراعة في الأغوار والبادية أكثر إنتاجية عبر تقنيات الاستشعار والري الذكي. بهذه الصورة، تتحول الهيئة من مجرد مؤسسة حكومية إلى رافعة وطنية للدمج المجتمعي، تسهم في تقليص الفجوة بين المركز والهامش، وتعيد تعريف العدالة الرقمية باعتبارها أحد الحقوق الأساسية للمواطن.
أما على الصعيد الدولي، فإن وجود هيئة رقمية للذكاء الاصطناعي سيمنح الأردن هوية واضحة في منظومة الاقتصاد العالمي الجديد. فالعالم اليوم يعيد رسم خرائط النفوذ على أساس الكفاءة الرقمية، ومن يملك القدرة على إدارة بياناته وإنتاج تقنياته يصبح أكثر حضورا في أسواق المال وأكثر تأثيرا في القرارات الدولية. من خلال هذه الهيئة، يمكن للأردن أن يرسخ صورته كدولة رشيقة قادرة على المنافسة، فيجذب الاستثمارات الأجنبية ويعزز موقعه في تقارير التنافسية العالمية ومؤشرات الابتكار.
إن التحديات بلا شك حاضرة، سواء كانت في التمويل أو في تأهيل الكوادر أو في تطوير البنية التحتية. لكن التاريخ يعلمنا أن التحديات الكبرى هي التي تصنع أعظم التحولات. فالتمويل يمكن أن يأتي من شراكات استراتيجية مع مؤسسات إقليمية وعالمية تؤمن برؤية الأردن المستقبلية، والكوادر يمكن إعدادها عبر برامج ابتعاث وتدريب متقدم بالشراكة مع المراكز البحثية الرائدة، أما البنية التحتية فبإمكانها أن تبنى تدريجيا بخطط ذكية تتوزع على مراحل زمنية مدروسة. المهم أن تكون هناك إرادة واضحة ومؤسسة قادرة على حمل المشروع حتى آخر الطريق.
إن هيئة رقمية للذكاء الاصطناعي في الأردن ليست مجرد اقتراح إداري، بل مشروع وطني جامع، يملك القدرة على إعادة صياغة علاقة المواطن بالدولة، وعلاقة الدولة بالعالم. هي منصة لتوحيد الرؤية وتفجير الطاقات الكامنة، ونافذة تطل منها المملكة على المستقبل بثقة لا تعرف التردد.
وحين نضع هذه الرؤية في سياقها الأوسع، ندرك أن القضية ليست في امتلاك أحدث الأجهزة أو شراء البرمجيات الجاهزة، بل في بناء عقل وطني جمعي يعرف كيف يوجه هذه الأدوات ويوظفها بما يخدم التنمية المستدامة ويعزز السيادة الرقمية. فالذكاء الاصطناعي ليس أداة محايدة، بل قوة قادرة على إعادة تشكيل الاقتصاد والسياسة والهوية، ومن لا يملك القدرة على هندسته سيظل رهينة لمن يبرمج له مستقبله.
من هنا، يصبح تأسيس هذه الهيئة رسالة مزدوجة: إلى الداخل، لتأكيد أن الأردن جاد في بناء اقتصاد معرفي شامل، وإلى الخارج، لإثبات أن المملكة ليست مجرد متلق للتقنيات، بل شريك فاعل في صياغة الثورة الرقمية.
وفي الختام الذي يليق بهذا الطرح لا بد أن تكون دعوة ملهمة، لا تنحصر في لغة التوصيات التقنية، بل تفتح أفق الحلم الإستراتيجي. فالهيئة الرقمية المقترحة ليست مؤسسة تبنى من حجر وإدارة، بل حلم يصاغ من وعي ورؤية. هي البوابة التي ستعبر منها المملكة إلى مرحلة جديدة من تاريخها، حيث يتحول الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة إلى لغة وطنية مشتركة، ومن مجرد تقنية إلى هوية رقمية جامعة. وحين يقرر الأردن أن يكتب فصله الجديد بهذه اللغة، فإنه لا يشارك في صناعة المستقبل فحسب، بل يعلن أنه حاضر فيه كقوة مبدعة وصانعة للتغيير.