أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    25-Nov-2025

البيئة الرقمية الاقتصادية المستقبلية.. إعادة هندسة الفرص وصياغة عدالة جديدة للاقتصاد

 الغد-د. مروة بنت سلمان آل صلاح 

 
 كان الاقتصاديون قديماً يقولون إن المستقبل يولد في المراكز المالية، لكن الحقيقة التي تكشفت في العقد الأخير أن المستقبل لم يعد ينسج في بورصات نيويورك أو لندن، بل في غرف صغيرة تضيئها شاشات، وفي عقول تتعامل مع البيانات كما لو كانت خاماً جديداً أكثر ندرة من المعادن الثمينة. لقد تغير مركز الجاذبية الاقتصادي
 
 
 لم يعد الذهب معيار القوة، بل القدرة على قراءة الشيفرة. وفي عالم تصنعه الخوارزميات وتعيد صياغته البيانات، يتحول كل بلد إلى معمل اختبار: هل يملك الشجاعة ليعيد هندسة اقتصاده؟ وهل يستطيع أن يحرر فرصه من القيود التاريخية التي كبلته؟
الأردن اليوم يقف تماماً عند هذا الخط الفاصل. ليس لأنه يعاني من فجوة اقتصادية فحسب، بل لأنه يمتلك كتلة شبابية ضخمة تفوق 60 % من السكان، ومع ذلك ما يزال جزء كبير منهم ينتظر فرصة تمنح، لا إمكانية تكتشف. الازدواجية بين الإمكانات الكبيرة والفرص المحدودة تشبه اقتصاداً يمشي بقدم واحدة؛ شغوف، ولكنه مثقل بما تبقى من أنماط تقليدية حكمت توزيع الفرص لعقود طويلة. وفي بيئة تتقدم فيها التكنولوجيا أسرع من السياسات، يصبح عدم تكافؤ الفرص ليس مجرد مشكلة اجتماعية، بل عائق اقتصادي يضغط على قدرة البلاد على اللحاق بالموجة الرقمية العالمية.
إن الوظائف العليا في مؤسسات كثيرة ما تزال محكومة بثقافة الامتيازات المتوارثة، حيث يصبح الوصول إلى المواقع القيادية انعكاساً للشبكات أكثر مما هو انعكاس للكفاءة. ورغم وجود حالات مضيئة تكسر هذه القاعدة، إلا أن الأرقام لا تكذب: فجوة تمثيل النساء في الإدارة العليا ما تزال واسعة، ونسبة البطالة بين الشباب وصلت في بعض الأعوام إلى حدود مؤلمة تقارب 37 %، فيما تظهر دراسات بحثية أن ما يزيد عن نصف خريجي الجامعات يبحثون عن فرص عمل خارج تخصصاتهم. هذه ليست علامات ضعف في القدرات البشرية، بل مؤشرات على أن الفرصة لا تصل إلى مستحقيها بالعدل الذي يليق بهذا الجيل.
ثم جاء الذكاء الاصطناعي ليقلب الطاولة. ليس بوصفه تقنية، بل بوصفه منظومة قيمية جديدة تعيد تموضع القوة. فالخوارزمية لا تجامل، والبيانات لا تعرف الواسطة، وأنظمة التقييم الذكي تستطيع، إن استخدمت بطرق محكمة، أن تقيس الكفاءة بشكل مجرد من الميول الشخصية. لقد أثبتت التجارب الدولية أن استخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات التوظيف يقلل الانحياز المؤسسي بما يقارب 25 % إلى 30 %، ويرفع دقة اختيار المرشحين إلى مستويات لم تكن ممكنة بالأساليب التقليدية. وفي الأردن، فإن المؤسسات التي تبنت التحول الرقمي في إجراءاتها الإدارية شهدت خلال ثلاث سنوات تحسناً ملحوظاً في الإنتاجية تراوح بين 15 % و22 %، مما يبرهن على أن التكنولوجيا ليست رفاهية، بل طريق للخروج من الحلقة الضيقة التي تحاصر الفرص النوعية.
هذه البيئة الرقمية لا تعيد تشكيل المؤسسات وحدها، بل تعيد تشكيل المجتمع نفسه، فالتحول من سوق يعتمد على الروابط التقليدية إلى سوق يعتمد على المهارات الرقمية يغير علاقات القوة، ويمنح الأطراف المهمشة مساحة جديدة للحضور. المرأة الأردنية، على سبيل المثال، دخلت قطاعات رقمية متقدمة لم تكن مهيأة لها سابقاً، وتحولت من مستهلكة للتكنولوجيا إلى منتجة لحلول ذكية، وبدأ شباب المحافظات يتجاوزون البعد الجغرافي عبر منصات العمل الحر والعمل عن بعد، ليصبح الاقتصاد الرقمي وسيلة لإعادة توزيع الفرص على الخريطة الوطنية كلها، لا على العاصمة وحدها.
لكن السؤال الحقيقي ليس: هل نمتلك التكنولوجيا؟ بل: هل نمتلك الإرادة لإعادة صياغة العقل الاقتصادي بطريقة تناسب هذا الزمن؟ فالثورة الرقمية لا تدار بالأدوات، وإنما تقاد بالفلسفة. نحتاج إلى إعادة تعريف النجاح، وإعادة كتابة قواعد الحراك المهني، وإعادة بناء منظومة تشريعية تحرس العدالة الرقمية وتضمن أن كل خوارزمية تستخدم في القطاع العام أو الخاص تعمل لصالح الشفافية لا لصالح الاحتكار.
المستقبل لن يصنعه من يخاف من التغيير، بل من يمتلك الجرأة على توجيه الخوارزمية لا الاكتفاء باستخدامها. وعندما يفهم صانع القرار أن الذكاء الاصطناعي ليس تهديداً لفرصة العمل، بل محرك لخلقها، يمكن عندها فقط أن يتحول الأردن إلى اقتصاد رقمي منتج، لا مستهلك، وإلى دولة تقود التغيير بدلاً من أن تظل ضيفاً على مائدته.
ومع هذا التحول، يصبح السؤال الأخير هو الأكثر حسماً: هل يستطيع الأردن أن يتحرر من الامتيازات القديمة ليمنح الفرصة لمن يستحقها؟ الإجابة ليست مكتوبة سلفاً. لكنها تبدأ من الاعتراف بأن الكفاءة هي رأس المال الحقيقي، وأن المعرفة هي العملة الجديدة، وأن الاقتصادات التي لا تتبنى العدالة الرقمية ستظل خارج السباق مهما امتلكت من تقنيات.
وفي النهاية، يمكن القول إن الأردن يمتلك كل ما يحتاجه للانطلاق: عقولاً متقدة، وشباباً جائعاً للفرص، وبيئة رقمية تتشكل بوتيرة متسارعة. ما ينقصه هو أن يتوقف عن لعب دور المتلقي، وأن يبدأ بالتصرف كمحرك. فالتحول الرقمي ليس موجة قادمة، بل زمن قائم. والذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن الإنسان، بل امتداد لقدراته. والدول التي ستنجح في هذا القرن ليست تلك التي تملك أكبر الموارد، بل تلك التي تملك أعمق رؤية.
إن العدالة الرقمية ليست رفاهية فكرية، بل مشروع دولة تريد أن يكون كل فرد فيها جزءاً من هندسة مستقبلها. وعندما تسقط الخوارزميات آخر بقايا الامتيازات غير المستحقة، وتعيد توزيع الفرص وفق معيار واحد هو الكفاءة، يصبح الوطن أكثر عدلاً، وأكثر تنافسية، وأكثر قدرة على بناء اقتصاد يشبه أحلام شبابه لا قيوده القديمة.
وهنا، عند هذا التقاطع بين الإرادة والتكنولوجيا، يكتب التاريخ الحقيقي. فالأردن الذي عرف كيف يصمد، قادر اليوم أن يعرف كيف يتقدم. والأردن الذي أنتج عقولاً تحاكي العالم، قادر أن ينتج نموذجاً يلهم العالم. ليس لأنه الأغنى بالموارد، بل لأنه الأغنى بما هو أهم: القدرة على إعادة اختراع ذاته.
إن التحول الرقمي ليس مجرد فرصة اقتصادية، بل لحظة ولادة جديدة لبلد يدرك أن قيمته الحقيقية تتجلى حين يمنح أبناءه منصة عادلة ليظهروا ما لديهم. وعندما تلتقي العدالة بالشجاعة، ويلتقي الذكاء الاصطناعي بالإرادة الوطنية، يصبح المستقبل ليس احتمالاً بل مشروع قابل للتحقق.