أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    15-Dec-2025

كيف نحول تصفيق المدرجات إلى أرقام نمو بالاقتصاد؟

 الغد-د. حمزة العكاليك

 في اللحظة التي يرتفع فيها اسم الأردن في المحافل الرياضية العالمية، وتحديداً مع سيناريو التأهل التاريخي لبطولة كأس العالم، فإننا لا نتحدث عن مجرد إنجاز كروي يُحتفى به في المدرجات فحسب؛ بل نحن أمام زلزال رقمي إيجابي وفرصة اقتصادية نادرة قد لا تتكرر إلا مرة واحدة في كل جيل.
 
 
 فالعالم اليوم لا يرى الدول بعينه المجردة، بل يراها عبر الخوارزميات وشاشات الهواتف الذكية. ومن هنا، أجزم بأن الأردن يقف اليوم على أعتاب منجم ذهب حقيقي، ليس في باطن الأرض، بل في عقول شبابه وفي السردية الرقمية التي يمكننا صناعتها للعالم. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن: كيف نحول هتاف الجماهير إلى أرقام في الموازنة العامة؟ وكيف نجعل من المحتوى صناعة وطنية تبتلع البطالة وتصدر الثقافة؟
الأردن يمتلك اليوم النفط الجديد، وهو كنز ديموغرافي لا تملكه الكثير من الدول المتقدمة؛ مجتمع فتي بنسب تاريخية غير مسبوقة، ومستوى تعليمي يضع المملكة في مصاف الدول المصدرة للكفاءات.
 فالأرقام تتحدث بوضوح صارخ: أكثر من 10000 خريج سنوياً في تخصصات تكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي وهندسة البرمجيات.
 هؤلاء الشباب، الذين ينظر إليهم بعضهم كأرقام في طوابير ديوان الخدمة المدنية، هم في لغة الاقتصاد الرقمي أصول استثمارية معطلة.
 فالرؤية الملكية السامية، والجهود الحثيثة لسمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني نحو أردن رقمي، تضع الأساس المتين، لكن البناء يتطلب تحويل هؤلاء الخريجين من باحثين عن وظائف تقليدية، إلى جنود محتوى ومحللي بيانات، يقودون حملة الأردن الرقمية أمام العالم.
 إن صناعة المحتوى في عصر الذكاء الاصطناعي لم تعد عملية عفوية تعتمد على الإلهام، بل هي علم قائم على حوكمة البيانات (Data Governance)، والاستفادة من كأس العالم لا تعني نشر الصور السياحية الجميلة للبترا فحسب، بل تعني تحليل ملايين نقاط البيانات لمعرفة ماذا يريد العالم أن يرى.
 هنا يأتي دور حوكمة التحول الرقمي؛ فنحن بحاجة إلى إنشاء منظومة وطنية تعمل كمصفاة بيانات، تحلل سلوك المشجع العالمي: ماذا يأكل؟ ما هي الموسيقا التي يحبها؟ وما هي القصة التي تثير فضوله؟ وبناءً على هذه البيانات الدقيقة، يقوم خريجو التكنولوجيا الأردنيون بتوجيه خوارزميات الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى مفصَّل خصيصاً (Hyper-Personalized)، يخاطب المشجع البرازيلي بلغته واهتماماته، والمشجع الياباني بثقافته. فهذا هو الفارق بين التسويق العشوائي والتسويق القائم على هندسة البيانات.
نحن نعيش حقبة اقتصاد الانتباه، والرابح هو من يستطيع إبقاء السائح منغمساً في قصته لأطول فترة ممكنة. ومن هنا يبرز دور السياحة الثقافية النوعية المعززة بالتكنولوجيا.
 تخيلوا معي منصة أردنية موحدة، يديرها شباب أردنيون، تستخدم تقنيات الواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR) لنقل تجربة الأردن إلى غرف معيشة المشجعين حول العالم قبل انطلاق صافرة المباراة. يمكننا خلق تجارب تتيح للمشجع التجوال افتراضياً في الكرك وعجلون، أو حضور جلسة سمر بدوية بتقنية الهولوغرام. هذا النوع من المحتوى عالي التقنية لا يروج للسياحة فقط، بل يخلق صناعة بحد ذاتها، تتطلب مبرمجين، ومصممين، وكتاب سيناريو، وخبراء تراث، مما يفتح آفاقاً واسعة لتوظيف آلاف الشباب في وظائف غير تقليدية وعالية الدخل.
ولتحويل هذا التنظير إلى واقع ملموس، يجب أن نتحرك وفق ثلاث ركائز عملية فورية: أولاً، تأسيس وحدة المحتوى الوطني الذكي: وهي حاضنة أعمال وطنية تجمع بين خريجي التكنولوجيا وخريجي الإعلام والفنون، مهمتها إنتاج محتوى احترافي يروي قصة الأردن بأسلوب عالمي، مستفيدين من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي لضمان غزارة الإنتاج وجودته. ثانياً، إطلاق مبادرة سفراء البيانات الأردنيين: فمن خلال برنامج لتدريب الشباب في المحافظات على توثيق كنوزهم الثقافية المحلية ورفعها على المنصات العالمية بأسلوب يراعي معايير محركات البحث (SEO)، مما يحول كل شاب إلى نقطة بث سياحية ذكية. ثالثاً، الاستثمار في تسويق الهوية الرقمية: حيث لا يقتصر العائد على تذاكر السفر، بل يمتد لبيع المنتجات الثقافية الرقمية، والتطبيقات السياحية، وحتى حقوق الملكية الفكرية للمحتوى المنتج أردنياً.
في الختام، نحن أمام خيارين: إما أن نترك خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي العالمية هي من ترسم صورة الأردن بناءً على العشوائية، أو أن نمسك بزمام المبادرة ونستخدم جيشنا الرقمي من الخريجين والمبدعين لصناعة هوية رقمية سيادية. فتأهلنا للمحافل الدولية ليس مجرد انتصار رياضي، بل هو منصة انطلاق لاقتصاد يقدر بمليارات الدنانير.
البيانات موجودة، والمواهب متكدسة على قوائم الانتظار، والإرادة السياسية متوفرة برؤية ملكية شابة. ما ينقصنا هو "المايسترو" الذي يقود هذه "الأوركسترا" الرقمية.
 إذا لم نبدأ اليوم بصناعة محتوانا الخاص، فسنظل مجرد مستهلكين في عالم يصنعه المنتجون. الفرصة الآن.. والكرة في ملعبنا الرقمي.