حروب أميركا التجارية.. جميع الخيارات مفتوحة*أحمد عوض
الغد
في خضم التحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي، تتبنى الولايات المتحدة سياسات تجارية صارمة، تعكس قلقا متزايدا من تراجع دورها القيادي في العالم، في مقابل صعود قوى اقتصادية منافسة، وعلى رأسها الصين.
هذه السياسات التي تُعرف يطلق عليها بـ"الحروب التجارية"، لم تعد مجرد أدوات اقتصادية تقنية، بل باتت تمثل إستراتيجية أميركية لإعادة تشكيل قواعد النظام التجاري العالمي بما يخدم مصالحها المباشرة، حتى وإن جاء ذلك على حساب الاستقرار الاقتصادي العالمي وشركائها التقليديين، فضلًا عن خصومها الإستراتيجيين.
الإدارة الأميركية الحالية تبرر هذه الإجراءات برغبتها في خفض العجز التجاري، الذي يقترب من 1.2 تريليون دولار، وإعادة توطين الصناعات الكبرى داخل الولايات المتحدة. لكن خلف هذا الخطاب الرسمي، تقف دوافع مالية داخلية، أبرزها الحاجة إلى زيادة الإيرادات لتعويض الخسائر الناتجة عن التخفيضات الضريبية الكبيرة التي منحتها الحكومة لقطاع الشركات.
غير أن الرهان على إعادة الصناعات إلى الداخل الأميركي يفتقر إلى أسس واقعية، إذ يصعب إقناع الشركات التي رحلت قبل عقود إلى دول تقدم بيئة إنتاج أرخص وأكثر مرونة بالعودة دون تقديم حوافز مالية ضخمة تعوّضها عن فارق التكاليف. تجارب تاريخية مشابهة، مثل تلك التي حدثت في ثلاثينيات القرن العشرين وسبعينياته، أثبتت أن السياسات الحمائية الصارمة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، من أبرزها تفاقم الأزمات الاقتصادية بدلاً من احتوائها.
اليوم، يواجه الاقتصاد العالمي صدمة قوية تتمثل في ارتفاع أسعار السلع الأساسية، واضطراب سلاسل الإمداد، وتصاعد حالة عدم اليقين، وانخفاض مؤشرات الأسواق المالية. هذه العوامل مجتمعة تنذر باحتمالية الدخول في ركود اقتصادي عالمي، بل وربما "ركود تضخمي" – وهو السيناريو الأسوأ اقتصاديا، حيث يتزامن تباطؤ النمو مع ارتفاع الأسعار.
القلق يتعاظم أيضا بسبب ردود الفعل الدولية على السياسات الأميركية الجديدة؛ فالصين أعلنت عن فرض رسوم جمركية بنسبة 34 بالمائة على السلع الأميركية، بينما يهدد الاتحاد الأوروبي وكندا بإجراءات مماثلة. هذا التصعيد المتبادل ينذر بحرب تجارية شاملة قد تطال آثارها جميع دول العالم، ولا سيما الدول الضعيفة اقتصاديا، التي تعتمد بشكل أساسي على التصدير كمصدر للدخل القومي – وهي السمة الأبرز لدول الجنوب العالمي.
المفارقة أن هذه السياسات الأميركية تُنفّذ في وقت تتطلب فيه التحديات العالمية – من أزمة المناخ إلى أزمة الغذاء – مزيدا من التعاون الدولي لا مزيدا من التنافس والتصعيد. وبدلا من تعزيز الشراكات العالمية لمواجهة هذه الأزمات، تدخل الولايات المتحدة في صراع تجاري غير محسوب، ستكون أولى ضحاياه الدول الأكثر هشاشة، حيث تتعرض لصدمات اقتصادية تشمل انخفاض الطلب العالمي، وارتفاع تكاليف الواردات، وتدهور أسعار صرف العملات، مما يؤدي إلى تفاقم الفقر والبطالة والتفاوتات الاجتماعية.
وفي هذا السياق، لا يمكن تبرئة النظام التجاري العالمي قبل هذه التحولات من التحيز والخلل. فلطالما خضعت دول الجنوب لشروط تجارية غير متوازنة، أجبرتها على تصدير المواد الخام بأسعار زهيدة، بينما فُرضت عليها قيود صارمة عند تصدير منتجاتها الصناعية والزراعية إلى الدول المتقدمة. ومع ذلك، فإن ما تفعله الإدارة الأميركية الآن لا يُصلح هذا الخلل، بل يعمّقه ويعيد تشكيله بطريقة أكثر أنانية وخطورة. إن العالم يقف اليوم أمام مرحلة انتقالية تعيد رسم ملامح التوازنات الاقتصادية الدولية، وتفرض واقعا جديدا قد لا يكون في مصلحة الجميع. في هذا السياق، تترك الولايات المتحدة الباب مفتوحا أمام جميع الخيارات، في صراع قد يمتد لسنوات، يحمل في طياته فرصا قليلة، ومخاطر كبيرة.
على المستوى المحلي، ورغم أن الاقتصاد الأردني لا يحتل موقعا محوريا في الخريطة التجارية الأميركية، إلا أن السياسات الجديدة ستترك آثارا ملموسة. فحجم الصادرات الأردنية إلى الولايات المتحدة يبلغ نحو 3.3 مليار دولار سنويا، تشكّل ما يقارب ربع مجمل صادرات الأردن، معظمها من صناعة الألبسة، إلى جانب صناعات المجوهرات والأسمدة وتكنولوجيا المعلومات. فرض رسوم جمركية جديدة – مثل المقترح الأميركي بنسبة 20 بالمائة – سيؤثر مباشرة على قطاعات تشغّل آلاف الأردنيين.
ويبرز هنا قلق حقيقي حول مستقبل اتفاقية التجارة الحرة بين الأردن والولايات المتحدة، وهل ستبقى سارية المفعول، أم أن الإدارة الأميركية ستعيد النظر في التزاماتها من طرف واحد؟ على الأردن أن يتحرك دبلوماسيا لضمان احترام هذه الاتفاقيات وتخفيف الضرر المتوقع على الاقتصاد الوطني.
المنافسة المتزايدة من دول مثل مصر والمغرب، التي تصدّر منتجاتها إلى السوق الأميركي برسوم جمركية عند 10 بالمائة، تضيف ضغطا إضافيا على الصادرات الأردنية، خصوصا من المناطق الصناعية المؤهلة (QIZ)، كما يواجه قطاع المجوهرات تهديدا حقيقيا.
كل هذه العوامل ستنعكس على الاقتصاد الكلي في الأردن، من خلال موجات تضخم مستوردة ترفع أسعار السلع والخدمات، وتزيد من الأعباء المعيشية، وتعمّق من الفقر والبطالة، في وقت يعاني فيه الاقتصاد أصلا من ضعف في معدلات النمو وتراجع الاستثمارات.