الغد
يسود في الخطاب السياسي والإعلامي الدولي تصور راسخ مفاده بأن الدول الغنية في الشمال العالمي، تمول الدول الفقيرة في الجنوب العالمي عبر المساعدات والمنح والاستثمارات. غير أن هذا التصور يتهاوى أمام ما تكشفه الدراسات الاقتصادية والبيئية الحديثة من نتائج تشير الى أن دول الجنوب هي من تمول الشمال وليس العكس.
فقد أشارت نتائج دراسة تطبيقية أعدتها مجموعة من الباحثين الاقتصاديين نشرت العام 2022، اعتمدت على مؤشرات إحصائية شاملة تغطي الفترة بين العامين 1990 و2015، إلى أن دول الشمال العالمي، وخاصة الصناعية منها، استولت على موارد طبيعية وطاقات بشرية ومادية ضخمة من دول الجنوب.
ووفقا لهذه الدراسة، بلغ إجمالي الاستنزاف الصافي من الجنوب ما مجموعه 242 تريليون دولار، وهو ما يعادل ربع الناتج المحلي الإجمالي التراكمي لدول الشمال خلال تلك الفترة. كما أن قيمة الخسائر الناجمة عن التبادل غير المتكافئ فاقت حجم المساعدات الإنمائية الرسمية المقدمة للجنوب بأكثر من 30 مرة.
لكن هذا ليس المؤشر الوحيد الذي يفند خرافة "تمويل الشمال للجنوب". إذ تظهر تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومراكز بحثية مستقلة، أن تدفقات الموارد المالية من الجنوب إلى الشمال تتجاوز كثيرا ما يرسل في الاتجاه المعاكس. ففي العام 2022 وحده، بلغت الفوائد المسددة من دول الجنوب على ديونها الخارجية أكثر من 400 مليار دولار، وهو رقم يفوق إجمالي المساعدات الإنمائية العالمية لذلك العام.
في المقابل، يقدر أن ما بين 30 إلى 50 مليار دولار سنويا، تحول من الجنوب إلى الشمال على شكل أرباح استثمارات أجنبية مباشرة تعود لشركات متعددة الجنسيات مقرها في الشمال، تعمل في قطاعات التعدين والطاقة والزراعة والصناعات الاستخراجية في الجنوب.
وبحسب دراسة أعدها مركز "تكساس للعدالة الاقتصادية"، فإن رؤوس الأموال المهربة من دول الجنوب إلى حسابات في بنوك الشمال تفوق 100 مليار دولار سنويا، مما يعني أن النظام المالي العالمي يستخدم عمليا لتجفيف موارد الجنوب بدلا من دعم تنميته.
تضاف إلى ذلك المنح المشروطة، التي تربطها الدول المانحة في كثير من الأحيان بإجراءات تقشفية، أو شراء منتجات من السوق المانحة، أو الانخراط في اتفاقيات تجارية مجحفة، تجعل من هذه المنح أداة لضمان الامتثال السياسي والاقتصادي، وليس لتعزيز الاستقلالية أو التنمية الحقيقية.
هذه الحقائق تقلب المفاهيم السائدة رأسا على عقب. ما يسوق على أنه "مساعدات سخية" من دول الشمال إلى الجنوب ليس سوى إعادة تدوير لجزء ضئيل من الثروات المنهوبة، وغالبا ما يستخدم لتجميل وجه نظام عالمي قائم على اللامساواة والاستغلال المنظم.
ويزداد هذا التناقض حدة مع اقتراب موعد انعقاد القمة العالمية الرابعة لتمويل التنمية، المقررة في نهاية حزيران (يونيو) المقبل بمدينة إشبيلية الإسبانية. ففي الوقت الذي يفترض فيه أن تناقش القمة سد فجوة التمويل في الدول النامية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، تعلن الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية عن خفض مساعداتها الخارجية، متجاهلة أن الجنوب ما يزال، حتى اللحظة، يسدد أكثر مما يتلقى، سواء على شكل فوائد الديون، أو أرباح الاستثمارات الأجنبية، أو الموارد الطبيعية المستنزفة.
إن معالجة هذا الخلل البنيوي في النظام الاقتصادي العالمي لا يمكن أن تتم عبر زيادة "المعونة"، بل تتطلب إصلاحا شاملا لقواعد التجارة العالمية والمالية الدولية، والتخلص من آليات التبادل غير المتكافئ، وفرض ضرائب عادلة على الأرباح الخارجة من الجنوب، إضافة إلى دفع تعويضات عادلة عن عقود من النهب الممنهج.