ساعات العمل والإنتاجية.. هل حان الوقت لمعادلة جديدة؟
الغد-عبد الرحمن الخوالدة
فيما أصبح "العمل عن بعد" وتقليص ساعات العمل نمطا واسع الانتشار في عدد من الدول ذات الاقتصادات المتقدمة يؤكد خبراء أن خطوات الأردن في هذا المجال ما زالت متثاقلة رغم الحاجة الملحة للاستفادة من هذه الفرصة لتقليص الهدر وتعزيز الإنتاجية.
وتواصل بعض الاقتصادات التوجه نحو تقليص ساعات وأيام العمل الأسبوعية لما لذلك من انعكاسات إيجابية على تحسين الإنتاجية وتوفير الموارد وتخفيف الضغط على البنى التحتية.
ويذكر أن الحكومة الأردنية أقرت خلال العام الماضي نظاما خاصا يسمح بتطبيق العمل المرن في خطوة تستهدف خفض الكلف التشغيلية، وتقليص معدلات الدوران الوظيفي، وتمكين وزارة العمل من القيام بالمهام والأدوار المحددة لها بموجب القانون في تنظيم سوق العمل عامة وتنظيم أشكال العمل المرن خاصة.
وكانت الحكومة اختبرت جدوى تطبيق الفكرة إبان ما عُرِف بـ"جائحة كورونا" إذ اضطرت كثير من الوزارات والمؤسسات الحكومية إلى الاستمرار في العمل وتكليف العاملين فيها بممارسة أعمالهم عن بعد باستخدام الإنترنت.
وبدأت الحكومة اختبار العمل المرن في وزارة الزراعة عام 2023، بالتنسيق مع ديوان الخدمة المدنية، وانسجاما مع نظامه الذي يتضمن إمكانية عمل 30 % من كادر الوزارة عن بعد.
ورغم مرور عام ونيف على قانون العمل المرن، إلا أنه لم يتم العمل به بعد على أرض الواقع، وينظر له على أنه لا يواكب التحول العالمي في نمط العمل، بحسب خبراء أكدوا لـ"الغد" أن الإنتاجية تمثل مؤشرا حاسما لكفاءة الاقتصاد، وأن الاعتماد على طول ساعات العمل لم يعد وسيلة فعالة لرفع مستوى الأداء، خاصة في ظل الاقتصادات الحديثة القائمة على الكفاءة والتنظيم والقيمة المضافة.
وأوضح هؤلاء أن زيادة ساعات العمل لا تعكس بالضرورة زيادة في الإنتاجية، مشيرين إلى أن الإرهاق الجسدي والذهني الناتج عن ساعات العمل الطويلة يؤدي إلى تراجع التركيز، وانخفاض جودة الأداء، وارتفاع احتمالات الأخطاء، ما يزيد من تكاليف الإنتاج ويضعف القدرة التنافسية للمؤسسات.
ويرى الخبراء أن تعزيز الإنتاجية يتطلب تحولا نوعيا في إدارة العمل، يشمل تحسين التخطيط والتنظيم وتوزيع المهام بكفاءة، وربط الأداء بمؤشرات قابلة للقياس، إلى جانب تطوير مهارات العاملين من خلال التدريب المستمر، واستخدام التكنولوجيا الحديثة وأتمتة المهام الروتينية، ورفع كفاءة بيئة العمل لتحقيق توازن بين الحياة المهنية والشخصية وتقليل الإجهاد الوظيفي.
وطالبوا بضرورة إعادة النظر في عدد ساعات العمل التقليدية، واعتماد أنظمة عمل مرنة في المؤسسات، وربط الأجور بالنتائج الفعلية لا مجرد الحضور، مع التركيز على القطاعات ذات القيمة المضافة العالية لتعزيز الإنتاجية الوطنية، إلى جانب ضرورة التوسع في تفعيل قانون العمل المرن.
منتدى الإستراتيجيات: الأردن الخامس عالميا بعدد ساعات العمل الأسبوعية
كان منتدى الإستراتيجيات الأردني، أصدر مؤخرا ملخص سياسات بعنوان "مستويات الإنتاجية في الأردن: مفارقات بين الواقع والمأمول"، قدم فيه قراءة معمقة لمستويات الإنتاجية في الاقتصاد الأردني، وتحليلا مقارنا مع مؤشرات الإنتاجية في العالم والدول العربية، بالاستناد إلى أرقام وتقديرات منظمة العمل الدولية، إذ جاء الأردن بالمرتبة الخامسة عالميا بمكافئ ساعات العمل مقارنة بالإنتاجية.
واشتمل الملخص على تحليل لواقع الإنتاجية في الاقتصاد الأردني على مستوى الأنشطة الاقتصادية؛ للوقوف على أبرز العوامل المؤثرة بمستويات الإنتاجية.
وأشار الملخص إلى أن العلاقة بين عدد ساعات العمل، ومتوسط إنتاجية العامل لكل ساعة، تعد من القضايا الجوهرية في تحليل كفاءة سوق العمل.
وأكد أنه بالرغم من الانطباع الشائع بأن ساعات العمل الطويلة قد تسهم في رفع الإنتاجية، إلا أن الأدبيات الاقتصادية، والمقارنات الدولية تشير إلى أنها ليست بالضرورة علاقة طردية.
ولفهم هذه العلاقة في سياقها الاقتصادي الدولي، قام المنتدى بتحليل بيانات 83 دولة من مختلف الأقاليم خلال عام 2023، باستخدام متغيرين هما: متوسط عدد ساعات العمل الأسبوعية لكل عامل (المتغير الأول)، ومتوسط الناتج المحلي لكل ساعة عمل (المتغير الثاني)، وفق بيانات منظمة العمل الدولية.
وأظهرت النتائج الأولية أن الاتجاه بشكل عام يشير إلى علاقة عكسية بين المتغيرين (ساعات العمل، والإنتاجية) فكلما زادت ساعات العمل الأسبوعية، تراجعت إنتاجية العامل لكل ساعة، والعكس صحيح.
الاقتصاد الحديث لا يتطلب ساعات عمل طويلة
وقال الباحث الاقتصادي أحمد عوض إن "نتائج الدراسات الحديثة تؤكد أن زيادة ساعات العمل لا تعد عاملا حاسما في رفع الإنتاجية، بل هي متغير هامشي يختلف تأثيره من قطاع اقتصادي إلى آخر وتشير العديد من الدراسات إلى وجود علاقة عكسية بين عدد ساعات العمل الأسبوعية ومستوى الإنتاجية، وهو ما يعكس حقيقة راسخة في اقتصاديات العمل، مفادها أن الإرهاق الجسدي والذهني الناتج عن ساعات العمل الطويلة يؤدي إلى تراجع التركيز، وانخفاض جودة الأداء، وارتفاع احتمالات الوقوع في الأخطاء".
وبناء عليه، فإن ربط الإنتاجية بطول ساعات العمل يمثل مقاربة تقليدية لم تعد منسجمة مع متطلبات الاقتصادات الحديثة، التي تقوم على الكفاءة والتنظيم والقيمة المضافة، لا على استنزاف الوقت والجهد البشري.
وقال "تعزيز الإنتاجية يتطلب تحولا نوعيا في إدارة العمل، يتجاوز منطق تمديد ساعات الدوام".
وأوضح أن ذلك يشمل تحسين التخطيط والتنظيم والتدريب داخل المؤسسات، من خلال تحديد أهداف واضحة، وتوزيع المهام بكفاءة، وربط الأداء بمؤشرات قابلة للقياس.
كما يتطلب الأمر تعزيز أنظمة الرقابة والمتابعة التي تركز على النتائج وجودة العمل بدل التركيز على الحضور الشكلي وعدد الساعات، إلى جانب تحسين شروط العمل بما يحقق توازنا أفضل بين الحياة المهنية والشخصية ويحد من الإجهاد الوظيفي.
اقتصاديا، يرى عوض أن ساعات العمل الطويلة وغير المنتجة تؤدي إلى آثار سلبية متعددة، أبرزها انخفاض الإنتاجية الكلية ما يضعف القدرة التنافسية للمؤسسات، كما تسهم في زيادة تكاليف الرعاية الصحية والتغيب عن العمل، وتراجع جودة السلع والخدمات نتيجة الإرهاق والأخطاء المتكررة.
وعليه، فإن الاقتصاد الحديث لا يقوم على ساعات العمل الطويلة، بل على حسن الإدارة، إذ تتحقق الإنتاجية الحقيقية من خلال التخطيط الفعال، والمتابعة الرشيدة، والتدريب المستمر، والتحفيز العادل، وتوفير بيئة عمل إنسانية ومستدامة.
الإنتاجية مؤشر حاسم لكفاءة الاقتصاد
قال الخبير الاقتصادي حسام عايش إن "الإنتاجية تعد أحد أهم العوامل لتحديد كفاءة أي اقتصاد" موضحا أنها تعكس قدرة الاقتصاد على العمل بكفاءة أعلى وتحقيق نتائج أفضل بما ينعكس على النمو ورفع مستوى الدخل وتحسين مستوى المعيشة.
وأضاف عايش "تشير الدراسات إلى علاقة عكسية بين الإنتاجية وعدد ساعات العمل، فزيادة ساعات العمل عن ثماني ساعات يوميا غالبا ما تؤدي إلى انخفاض إنتاجية العاملين نتيجة الإرهاق، قلة الحوافز، تراجع جودة الأداء، وأحيانا الأخطاء أو الحاجة لإعادة العمل".
وأكد أن الدول التي تقل فيها ساعات العمل غالبا ما تسجل إنتاجية أعلى، شريطة توفر كفاءة تقنية ومهارية مناسبة، وتدريب مستمر، وتركيز على جودة العمل بدلا من عدد ساعات العمل فقط،
وأشار إلى أن طول ساعات العمل له آثار صحية ونفسية سلبية تؤثر على الإنتاجية على المدى المتوسط والطويل.
واعتبر عايش أن الإنتاجية المنخفضة تمثل شكلا من أشكال الهدر الاقتصادي والاجتماعي، وأن تحسينها يرتبط بمراجعة الفرضيات التقليدية لسوق العمل الأردني، وزيادة الاستثمارات في رأس المال البشري والتكنولوجي، وإعادة هيكلة الحوافز لتصبح قائمة على الأداء الفعلي لا مجرد الحضور.
وشدد على أن الانتقال إلى اقتصاد أكثر إنتاجية لا يقوم على طول ساعات العمل فحسب، بل على جودة العمل خلال هذه الساعات، وتحسين بيئة الأداء، بما يحقق نتائج ملموسة ويعزز النمو الاقتصادي والاجتماعي.
وأوضح عايش أن تعزيز الإنتاجية في الأردن يتطلب، مراجعة عدد ساعات العمل بما يتناسب مع كفاءة الأداء، إضافة إلى رفع مستوى التكنولوجيا والتحول الرقمي في القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك الحكومة الذكية والخدمات التقنية، إلى جانب تطوير مهارات العاملين من خلال التدريب المستمر وزيادة قدراتهم الفنية والإدارية.
ويضاف إلى ذلك ربط الأجور بالنتائج وفق معايير عالمية لضمان تحفيز الأداء الفعلي وليس مجرد الحضور، إلى جانب الانتقال نحو قطاعات ذات قيمة مضافة عالية مثل الصناعات المتقدمة والسياحة العلاجية، مع تطوير القطاعات الأخرى إذ يمكن تحسين الإنتاجية سريعا، فضلا عن مطالبته بالبدء بتنفيذ قانون العمل المرن.
ساعات العمل الطويلة هدر للموارد
من جانبه، أكد الخبير الاقتصادي موسى الساكت أن ساعات العمل الطويلة تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية وارتفاع تكلفة الإنتاج، حيث يزداد الإرهاق الوظيفي وتكثر الأخطاء، ما يسبب خسائر للمؤسسات كما تترتب عليها زيادة في تكاليف الرعاية الصحية والتغيب.
ويرى الساكت أن تعزيز الإنتاجية وتقليص هدر الوقت يتطلب تنظيم ساعات العمل والتركيز على جودة الأداء بدلا من إطالة ساعات العمل، مع وضع أهداف واضحة ومحددة تساعد العاملين على توجيه جهودهم بفاعلية.
ودعا الساكت إلى أهمية اللحاق بالركب العالمي في استخدام التقنيات الحديثة وأتمتة المهام الروتينية يسهم في تقليل الوقت الضائع، إضافة إلى تدريب العاملين على مهارات إدارة الوقت وتطوير كفاءاتهم يعد عامل أساسي في رفع مستوى الإنتاجية، العمل والتغلب على تراجع الابتكار وضعف القدرة التنافسية على المدى الطويل.
الإنتاجية في الأردن تحتاج إلى تفكير خارج الصندوق وثقافة عمل جديدة
أستاذ الاقتصاد قاسم الحموري بدوره قال"موضوع الإنتاجية في الأردن جوهري ويحتاج إلى معالجة غير تقليدية وتفكير من خارج الصندوق"، مشيرا إلى أن نظام العمل الحالي الذي يفرض ساعات طويلة على الموظفين لا يعكس بالضرورة إنتاجية حقيقية، إذ إن جزءا من هذه الساعات يكون بلا عائد عملي ويترتب عليه هدر للطاقة والوقت والتكاليف".
وأكد الحموري أن قانون العمل المرن، إذا تم تطبيقه بشكل فعال وليس شكليا، يمكن أن يزيد الإنتاجية بشكل كبير، إلا أن هذا يتطلب وجود معايير ومقاييس أداء مستمرة، إذ يتم تقييم ما إذا كانت الإجراءات المتبعة تحقق النتائج المرجوة وتخفض التكاليف، مؤكدًا أن في الاقتصاد، التكاليف دائما مرتبطة بالإنتاجية، وكلما ارتفعت الإنتاجية انخفضت التكاليف.
وأوضح أن التدريب المستمر للموظفين من أبرز أدوات رفع الإنتاجية، مشيرا إلى أن العاملين غالبا يُترك لهم بدون تدريب أو تأهيل بعد التعيين، وهو ما يقلل من فعاليتهم.
ولفت إلى أن التدريب يجب أن يكون مستمرا ومتعدد الأشكال، سواء في مكان العمل مباشرة أو في مراكز متخصصة، كلما ظهرت تقنية جديدة أو أسلوب عمل جديد يجب تدريب الموظف عليها
وشدد الحموري على أن انخفاض الإنتاجية في الأردن مرتبط أيضا بـثقافة العمل والقيم المجتمعية، إذ يحتاج المجتمع إلى تعزيز قيم حب العمل والتفاني في الأداء.
وقال "المجتمعات المتقدمة يفتخر العامل فيها بإتقان عمله وخدمة الجمهور، بينما في بعض بيئاتنا، يفتخر الموظف بانخفاض إنتاجيته ويعتبر الجلوس بلا عمل إنجازا".
وأشار إلى أنه إذا أردنا رفع الإنتاجية في الأردن، لا يكفي التركيز على عدد ساعات العمل، بل يجب العمل على ثقافة الإنتاجية، التدريب المستمر، تبني أنظمة عمل مرنة، وتحديث معايير الأداء، بما يعزز الاقتصاد ويخفض الهدر.