الغد
يرى مراقبون أن الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب تشكل تحولًا جذريًا في النظام الاقتصادي العالمي، وتمثل خروجًا واضحًا عن السياسات التجارية التي تبنّتها الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة. على النقيض من النهج الليبرالي الذي ساد لعقود، والقائم على تحرير التجارة والتعددية الاقتصادية، تفصح إدارة ترامب عن نزعة حمائية مفرطة تريد إعادة رسم خريطة التبادل التجاري الدولي وفقًا لمبدأ الترامبيين، «أميركا أولًا». ومع أن هذه السياسات تُسوّق في الداخل الأميركي على أنها وسيلة لإحياء الصناعة المحلية، وتقليص العجز التجاري، والتصدي للممارسات الاقتصادية التي توصف بأنها غير عادلة، خصوصًا ما يتعلق بالصين، فإن آثارها تمتد لتطال بنية النظام العالمي نفسه. وربما تؤذن بانكفاء الولايات المتحدة عن الدور التقليدي الذي تدعيه لنفسها، وتسهم في تعميق العزلة وانحسار قبول أميركا على الساحة الدولية.
ثمة خلف هذه السياسات رغبة في تفكيك ما تبقى من منظومة العولمة الاقتصادية، وإعادة التأكيد على السيادة التجارية الوطنية، حتى ولو كان ذلك على حساب الاتفاقات الدولية والمؤسسات متعددة الأطراف. وكما يلاحظ المراقبون، فرضت إدارة ترامب رسومًا جمركية مشددة على واردات استراتيجية، استهدفت الصين، والاتحاد الأوروبي، وحلفاء تقليديين مثل كندا واليابان. وترافقت هذه الإجراءات مع خطاب سياسي يشي بانعدام الثقة في الشركاء التجاريين، وبنظرة مصلحية ضيقة للعلاقات الدولية. والتوقع هو اندلاع سلسلة من الحروب التجارية، وإضعاف سلاسل الإمداد العالمية، ورفع الكلفة على المنتجين والمستهلكين، وتقليص القدرة التنافسية للمنتجات الأميركية في الأسواق الخارجية.
لكن التداعي الذي ربما يكون أكثر أهمية من الأثر الاقتصادي المباشر هو التحول الإستراتيجي الذي ربما تؤشر عليه هذه السياسات: لم تعد الولايات المتحدة في عهد ترامب الضامن الأول للنظام العالمي الليبرالي، كما قدمت نفسها كل الوقت. وأصبحت تتصرف كقوة قومية غير معنية بالتوافقات الدولية، وتستخدم– بالإضافة إلى القهر العسكري- أدوات الاقتصاد للضغط والتأديب وليس للتكامل والتعاون. وكما يبدو، لم تعد الولايات المتحدة تتكلف عناء التظاهر بالعمل كـ»قائد نزيه» للنظام العالمي، وكشفت عن عدوانيتها واستغلال نفوذها لخدمة مصالحها الخاصة على حساب كل الآخرين.
على النقيض من مرامي ترامب المتصورة، ربما تخدم خطوته في تعزيز اتجاهات التعددية القطبية التي تحرم بلده من التفرد بالنفوذ. ويمنح خطابه الحمائي للمنافسين الفرصة تقديم أنفسهم كقوى عقلانية ومنفتحة على العالم، بينما تنكفئ القوة العظمى وراء أسوارها الجمركية. وتستطيع هذه القوى عرض نماذج بديلة للتنمية والعلاقات الدولية، خصوصًا على بلدان الجنوب العالمي المستغلة تاريخيًا في النظام السائد. من ذلك ما تعهد به وزير الخارجية الصيني في مؤتمر ميونخ الأمني بأن يكون بلده «قوة بناءة ثابتة» و»عامل يقين في هذا النظام متعدد الأقطاب».
كما يبدو، أضعفت سياسات ترامب الثقة بأميركا كحليف، حتى لدى أقرب شركائها المعروفين. وقد شرعت تكتلات ودول في إعادة تقييم علاقاتها الاقتصادية والجيوسياسية مع الولايات المتحدة، والبحث عن شراكات بديلة يحكمها الاستقرار والاحترام المتبادل. ولا بد أن تنعكس التبادلات التجارية على العلاقات السياسية وتعرض للاختبار أطر الثقة والاعتمادية المتبادلة. وعندما تتحول التجارة إلى أداة عقابية لا تستثني الحلفاء والشركاء، فإن ذلك يدعو إلى فحص مفهوم الشراكة والتحالف جملة وتفصيلًا.
ولم تقتصر تداعيات سياسات ترامب على الخارج فحسب، وإنما انعكست أيضًا في الداخل الأميركي. وإذا كان ثمة شيء فهو أن حمائية ترامب أكدت عمق الأزمة البنيوية التي تعاني منها الرأسمالية الأميركية: ثمة عجز متزايد عن التجديد، وتفاوت طبقي هائل، وميل إلى لوم الخارج بدلًا من مواجهة أوجه القصور الذاتية. وسوف يحدثك أي مقيم في الولايات المتحدة عن تراجع قطاع الخدمات، وتدهور البنية التحتية، ونسب الفقر الكبيرة وتلاشي فكرة «الحلم الأميركي».
رب ضارة نافعة. كما يقترح بعض المعلقين، ربما تعبر سياسات ترامب التجارية عن قوة مؤقتة تسعى إلى فرض شروطها، لكنها تنطوي في العمق على ملامح أزمة كبرى في الدور الأميركي العالمي، وقد تكون من بين العوامل التي تُعجّل بتراجع هذا الدور. عندما تضيف الولايات المتحدة إلى الفوضى الجيوسياسية التي تشيعها في العالم فوضى تجارية تمس بقوت الدول والأفراد، فإن ذلك حريّ بأن يدفع إلى عزل هذه الدولة وتجريدها من دورها القيادي، واستكشاف عالَم متعدد الأقطاب ربما يكون أكثر أمنًا وعدالة.