فرض الرسوم الجمركية الأميركية: تصحيح اقتصادي أم تصعيد لأزمة عالمية؟*د. اسماعيل ابو عامود
الراي
في السنوات الأخيرة، اتخذت الإدارة الأميركية، سلسلة من الإجراءات الاقتصادية الهادفة إلى تقويم الميزان التجاري للولايات المتحدة، أبرزها فرض تعريفات جمركية شاملة على الواردات من معظم دول العالم. هذه السياسات لم تأتِ من فراغ، بل تمثل انعكاساً عميقاً لتحولات عالمية معقدة، وجذور ممتدة في بنية النظام الاقتصادي الرأسمالي ذاته، الذي طالما تغلب عليه تعظيم الأرباح والتركيز على القيم الرقمية والمادية.
هذه الفلسفة دفعت الشركات الكبرى في الولايات المتحدة، منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلى نقل استثماراتها إلى دول ذات كلفة إنتاج منخفضة مثل الصين والهند وبعض دول جنوب شرق آسيا، واوروبا حيث لا تتشدد بعضها في القوانين العمالية او البيئية بنفس الصرامة المعمول بها في أميركا.
هذا التوجه، المدفوع بالرغبة في تعظيم الهوامش الربحية، ساهم في تآكل القاعدة الصناعية داخل الولايات المتحدة، وأضعف من قدرتها التنافسية داخليًا، ما أدى إلى تراجع الاستثمارات المحلية وتفشي البطالة في بعض القطاعات الحيوية. ولعل المفارقة المؤلمة أن هذه الشركات التي قررت الخروج من السوق الأميركية باتت اليوم أحد أسباب الأزمة الاقتصادية التي تسعى الحكومة لتصحيحها من خلال فرض الضرائب على المستوردات. ومن هنا، تتحمل هذه الشركات نصيبًا من المسؤولية، لأنها قدمت اعتبارات الربح على مصلحة الاقتصاد الوطني والمجتمع الأميركي ككل.
وفقاً لبيانات حديثة، ارتفعت الاستثمارات الأميركية المباشرة في الخارج من 580 مليار دولار عام 1982 إلى أكثر من 6.4 تريليون دولار في 2021. وقد تركزت هذه الاستثمارات في أوروبا (61%)، وأميركا اللاتينية (16%)، وآسيا والمحيط الهادئ (15%)، مع هيمنة قطاعات الشركات القابضة والتمويل والتصنيع على هذه الاستثمارات الخارجية.
الدافع الأساسي لهذه الاستثمارات كان تقليل التكاليف التشغيلية والاستفادة من الحوافز الضريبية في الخارج. فبين عامي 2002 و2009، بلغ متوسط أجر العامل في قطاع التصنيع الصيني أقل من 10% من نظيره الأميركي، وهو ما شجع الكثير من الشركات على إعادة تموضعها خارج البلاد.
مؤخرا، فرضت الحكومة الأميركية تعريفات جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات، تصل إلى 60% على المكسيك و125% على الصين. هذه السياسات كانت جزءاً من استراتيجية تهدف إلى استخدام الضغوط الجمركية كوسيلة لإعادة التفاوض على صفقات تجارية تصب في مصلحة الولايات المتحدة.
أثارت هذه السياسات موجة من التوترات التجارية، وردود فعل من الصين التي رفعت تعريفاتها إلى 84%، بالإضافة إلى ردود فعل مماثلة من كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي. كما أعلنت شركات أميركية كبرى عن نيتها رفع الأسعار لتغطية تكاليف التعريفات، ما يعني أن المستهلك الأميركي هو من سيتحمل جزءاً من هذا العبء.
هذه القرارات، وإن كانت تهدف لحماية الصناعة الأميركية، فإنها قد تؤدي إلى تقليص التجارة العالمية، وخلق بيئة اقتصادية متوترة، يصعب التنبؤ بتداعياتها في المدى البعيد، وهي محاولة للرد على نتائج عقود من السياسات الاقتصادية للنظام الرأسمالي الذي يركز بشكل مفرط على المؤشرات المالية بالدرجة الاولى، مما خلق فجوة بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ما أفضى إلى أزمات بات من الصعب تجاهلها.
محلياً، من المتوقع أن تؤدي هذه الإجراءات إلى آثار سلبية على الصادرات الأردنية إلى الولايات المتحدة في حال فرض رسوم جمركية إضافية عليها. كما قد تنخفض أسعار السلع المستوردة من الصين نتيجةً لتقلص صادراتها إلى السوق الأميركية، وذلك استناداً إلى قانون العرض والطلب.