الراي
تشكّل حوالات الأردنيين العاملين في الخارج مصدرًا هامًا للنقد الأجنبي في الأردن حيث تكوّن حوالي 8-10% من الناتج المحلي الإجمالي وتُسهم بشكل كبير إلى جانب السياحة والصادرات في توفير النقد الأجنبي وتعزيز الاستقرار المالي وسد العجز في الميزان التجاري (وبالتالي ميزان المدفوعات).ليس كل ما يلمع ذهباًورغم ذلك، تُستخدم معظم هذه الحوالات للاستهلاك الأسري، مما يحد من أثرها طويل الأجل في التنمية الاقتصادية، فاستغلال حوالات المغتربين (أو تحويلات العاملين في الخارج) بشكل فعّال يمكن أن يكون محركًا قويًا للتنمية الاقتصادية في الأردن.كما أن هذا المصدر من الدخل يتذبذب مع تطورات المنطقة وأسعار النفط. فالمتتبع لحوالات المغتربين سيجد أنها بلغت 24% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1975، أي بعد حرب أكتوبر عام 1973 بعامين نتيجة نمو دخل دول الخليج المصدرة للنفط. وبلغت في عام 1986 هذه النسبة 25%، أي ربع الناتج المحلي تماماً بعد عودة الأردنيين من دول الخليج مع تراجع دخل الأخيرة من النفط. ورغم أن هذه النسبة هي الأعلى في تاريخ الأردن الحديث، إلا أنها لم تحم الأردن من أزمة سعر الصرف عام 1988-1989.كل هذا يدل على: أولا، تذهب معظم هذه الحوالات الى نشاطات استهلاكية كشراء تلفاز أو ثلاجة أو سيارة، وهي منتجات لا تصنع في الأردن مما يؤدي الى ازدياد الواردات بالنسبة للصادرات ومستوى الدخل المحلي مما يزيد من العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات ويجعل الأردن مستهلكا اكثر منه منتجا. ثانيا، بما أن هذا الدخل ناجم عن أنشطة خارج الأردن وبعيد عن الأدوات الحكومية اللازمة لادارة الاقتصاد فانه دخل غير مستقر. ثالثا، يتحقق هذا الدخل نتيجة تصدير رأس المال البشري الأردني وهو الهدف الأول للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وأحد أهم مكوناتها. مما يجعل الحوالات ثمناً بخساً للفرصة الضائعة نتيجة هجرة العقول.ماذا فعلت دول أخرى لتوظيف حوالات المغتربين؟طوّرت العديد من الدول أفضل الممارسات العالمية في تغيير حوالات المغتربين من أداة لرفع معدلات الاستهلاك الى رافعة لمعدلات الاستثمار لتحقيق فائدة قصوى على مستوى الاقتصاد الكلي والجزئي وعلى مستوى التنمية المحلية والأسر والأفراد.من أبرز هذه الممارسات ما قامت به الفلبين، وكينيا، والهند لتعزيز الشمول المالي وتقليل الاعتماد على النقود الورقية (كاش)، وتحويل الأموال من الاستهلاك الفوري إلى الاستثمار والادخار، من خلال فتح حسابات بنكية للمستفيدين من الحوالات، وتسهيل الوصول للخدمات المالية (قروض، تأمين، ادخار)، ودعم المحافظ الإلكترونية.لتخفيض كلفة التحويلات وزيادة المبلغ الصافي الذي يصل للعائلات، وتحفيز المغتربين على التحويل الرسمي قامت المكسيك وبنغلاديش بدعم المنافسة بين شركات التحويل وإنشاء قنوات تحويل رقمية أو حكومية والتفاوض على رسوم أقل مع الدول المستقبِلة للعمالة.قامت الهند، والسلفادور، ونيبال بتحويل جزء من التحويلات نحو الاستثمار من خلال إصدار سندات خاصة للمغتربين، وتشجيع المغتربين على الاستثمار في المشاريع الصغيرة والعقارات والأسهم وإنشاء صناديق استثمار جماعي للمغتربين لدعم مشاريع تنموية.وأنشأت لبنان، وتونس، والمغرب بالتعاون مع الجاليات بالخارج مجالس أو منصات للمغتربين لمناقشة الفرص الاستثمارية وتسويق الفرص الاقتصادية في الوطن، وأقامت معارض لفرص تمويل مشترك بين الحكومة والمغتربين.ولدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة للعائلات المستفيدة قامت الفلبين ونيجيريا بتقديم تدريب وتمويل لمشاريع أسر المغتربين، وأنشأت برامج توجيه للاستثمار الزراعي أو الصناعي، وربطت الحوالات ببرامج دعم تنموية (مثل القروض الميسرة أو دعم الإنتاج).كما دمجت حكومات الكثير من الدول النامية حوالات المغتربين في الخطط الوطنية للتنمية وتعاونت مع مؤسسات دولية لتصميم سياسات مناسبة لهذا الدمج، ووفرت حوافز ضريبية وجمركية لجذب تحويلات المغتربين للاستثمار.رؤية التحديث الاقتصاديعلى الرغم من أهمية حوالات المغتربين، إلا أن رؤية التحديث الاقتصادي للأعوام 2023–2025 لم تُخصص محورًا صريحًا أو مبادرات محددة تتعلق بحوالات المغتربين ضمن برنامجها التنفيذي. ومع ذلك، هناك إشارات ضمنية لأهمية استثمارات المغتربين، حيث دعت الحكومة إلى تعزيز مشاركة القطاع الخاص، بما في ذلك المستثمرين من الجاليات الأردنية في الخارج.لجعل حوالات المغتربين محرك تنموي واستثماري مستدام يعتمد على سياسة متكاملة تقترن برؤية التحديث الاقتصادي (2022-2033)، اقترح أن تتضمن هذه السياسة الإجراءات التالية:إصدار سندات خاصة للمغتربين الأردنيين بعملات متعددة مخصصة لتمويل مشاريع تنموية أو خضراء بعوائد تنافسية.إطلاق صندوق استثماري للمغتربين يدار بشراكة بين القطاع العام والخاص ويستثمر في مشاريع إنتاجية محلية في المجالات المختلفة كالزراعة والطاقة والمياه والسياحة.تعزيز التحويلات الرقمية منخفضة الكلفة وتطوير منصة وطنية رقمية لتحويل الحوالات وعقد شراكات مع شركات تحويل عالمية ومحلية.إيجاد برامج تحفيز استثماري تحتوي على إعفاءات ضريبية للمشاريع الممولة من الحوالات وتخصيص أراضٍ بأسعار رمزية في المحافظات لتشجيع الاستثمارات المحلية.تأسيس مجلس وطني للمغتربين والاستثمار يضم ممثلين عن الجاليات الأردنية في الخارج والحكومة والقطاع الخاص ليتولى تطوير سياسة وطنية متكاملة.ربط الحوالات بالتنمية المحلية من خلال إنشاء آلية لتوجيه جزء من الحوالات نحو مشاريع مجتمعية ودعم البلديات من قبل الحكومة المركزية بتصاميم لمشاريع قابلة لتمويل المغتربين.يُنصح، لأهمية الدور الحيوي الممكن لحوالات المغتربين في الاقتصاد الأردني، بأن تتضمن البرامج التنفيذية المستقبلية لرؤية التحديث الاقتصادي مبادرات واضحة ومحددة لتوظيف حوالات المغتربين بشكل أفضل.