الدستور
شهدت منطقة الشرق الأوسط منذ بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة تصاعدًا حادًا في وتيرة الحروب والصراعات المسلحة، أدت إلى تآكل منظومات الدول، وتعطيل عملية التنمية المستدامة، وخلق اختلالات بنيوية في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي. ومع تصاعد التوتر العسكري مجددًا بين إسرائيل وإيران منذ يومين، إثر هجوم مباغت شنته إسرائيل على أهداف داخل الأراضي الإيرانية، تدخل المنطقة مجددًا في دوامة اضطراب إقليمي قد يُفضي إلى نزاع واسع النطاق، يعمق الفوضى القائمة ويقضي على ما تبقى من مساحات مرنة في الاقتصاد والمجتمع.
إن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحروب في المنطقة لم تعد مقتصرة على الدول المنكوبة مباشرة، بل امتدت آثارها العميقة لتطال الدول المستقرة نسبيًا، حيث تشكلت بيئات غير متوازنة في التوزيع السكاني، والضغط على الموارد، والتشوه في هيكل المالية العامة. فعلى سبيل المثال، أدت الحروب في سوريا واليمن والعراق وليبيا إلى نزوح أكثر من 20 مليون شخص، معظمهم إلى دول الجوار مثل الأردن ولبنان وتركيا ودول الخليج. في الأردن وحده، تضاعف عدد السكان من نحو 6.3 مليون نسمة في عام 2010 إلى أكثر من 11 مليون نسمة في عام 2025، وفقًا لتقديرات رسمية، بفعل موجات اللجوء المتتالية. هذا النمو السكاني غير الطبيعي خلق ضغوطًا هائلة على البنية التحتية، خصوصًا في مجالات الصحة والتعليم والإسكان والنقل.
في لبنان، الذي يواجه انهيارًا اقتصاديًا داخليًا، يُقدّر عدد اللاجئين السوريين بما يزيد عن 1.5 مليون لاجئ، أي ما يقارب 25% من مجموع السكان، وهو رقم غير مسبوق عالميًا من حيث النسبة إلى عدد السكان الأصليين. أما تركيا، فقد تجاوز عدد اللاجئين فيها 3.6 مليون لاجئ، وفق بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ما يفرض تحديات ضخمة على الموازنة التركية في ظل التباطؤ الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم والبطالة.
في المقابل، تشهد دول مثل سوريا واليمن والعراق وليبيا انخفاضًا حادًا في أعداد السكان النشطين اقتصاديًا نتيجة الهجرة والنزوح والقتل والتدمير، ما أدى إلى خلخلة سكانية داخلية وخارجية تسببت في شلل إنتاجي طويل الأمد، وضياع للأجيال، وارتفاع في نسب الإعالة. في سوريا مثلًا، تراجعت نسبة السكان المقيمين داخل البلاد من نحو 23 مليون نسمة قبل عام 2011 إلى أقل من 16 مليون نسمة عام 2024، بينما فقد اليمن أكثر من 4 ملايين من سكانه نتيجة النزوح الداخلي والخارجي.
هذه التحولات الديموغرافية، وما يصاحبها من ضغط على الدول المضيفة، ترافقت مع اضطراب عميق في هياكل الموازنات العامة. في الدول المستقبِلة للاجئين، أدى تراجع النشاط الاقتصادي إلى انخفاض الإيرادات الضريبية والجمركية، في حين تضاعفت النفقات العامة لتلبية المتطلبات الصحية والتعليمية والاجتماعية للسكان الجدد. على سبيل المثال، تشير التقديرات إلى أن الأردن ينفق سنويًا ما لا يقل عن 2.4 مليار دولار إضافية على خدمات اللاجئين، أي ما يمثل أكثر من 6% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، واكثر من 20% من الموازنة العامة، بحسب بيانات وزارتي المالية والتخطيط والتعاون الدولي.
أما في لبنان، فقد تفاقمت الأزمة المالية نتيجة عجز الدولة عن تمويل الخدمات العامة في ظل انخفاض الإيرادات وانهيار النظام المصرفي، الأمر الذي دفع نسبة من السكان اللبنانيين أنفسهم إلى الهجرة، ما عمق فقدان رأس المال البشري في البلد. وفي تركيا، شكّل الإنفاق على اللاجئين عاملًا مساهمًا في تفاقم العجز في الموازنة، في وقت يعاني فيه الاقتصاد من تبعات التضخم المفرط وتذبذب سعر صرف الليرة.
إن الانفجار الأخير في الصراع بين إسرائيل وإيران، وما ينطوي عليه من احتمالية توسع رقعة المواجهة، يعيد فتح ملفات النزوح والهجرة القسرية من جديد. فالخطر الذي يتهدد المناطق المدنية والبنية التحتية الحيوية في حال اشتداد المواجهة، سيؤدي إلى موجات جديدة من اللجوء نحو دول الجوار، وقد يطال آثارها حتى شمال إفريقيا في حال انهيار الممرات البحرية وتوقف التجارة عبر مضيق هرمز، الذي يمر منه نحو 20% من إمدادات النفط العالمية.
في ظل هذا المشهد المعقد، تبرز معضلة أخلاقية كبرى في تعامل المجتمع الدولي مع أزمات المنطقة، حيث تُترك الدول المتأثرة تتحمل أعباء بشرية ومالية تفوق طاقتها، في وقت تتنصل فيه العديد من الدول الكبرى من التزاماتها القانونية والإنسانية تجاه اللاجئين. إن المقاربات الحالية التي تركز على إدماج اللاجئين في المجتمعات المستضيفة ليست حلاً طويل الأمد، بل قد تكون محفوفة بالمخاطر السياسية والاجتماعية، خاصة إذا استمر غياب الأفق السياسي للحلول، وتراكمت التوترات بين السكان المحليين واللاجئين نتيجة التنافس على الموارد وفرص العمل.
إن المسؤولية الأخلاقية تقع على عاتق المجتمع الدولي، الذي يجب أن يتحرك فورًا لوقف الحروب، ومنع التصعيد، وفرض تسويات سياسية عادلة تتيح للاجئين العودة الآمنة والكريمة إلى أوطانهم. كما يتعيّن على الجهات المانحة والدول الكبرى إعادة هيكلة دعمها المالي للدول المتأثرة، ليس فقط من خلال المساعدات الطارئة، بل عبر آليات تمويل تنموية حقيقية، ومستقرة، ومستدامة، تأخذ بعين الاعتبار الأعباء المتراكمة وطول أمد الأزمة.
لقد آن الأوان لأن يتعامل المجتمع الدولي مع ما يجري في الشرق الأوسط لا بوصفه أزمة محلية، بل كقضية أمن عالمي وتنمية إنسانية شاملة، يتوقف عليها استقرار النظام الدولي بأكمله.