أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    29-Sep-2025

عدالة التحصيل من خلال الشمول... قراءة سلوكية في نظام الفوترة الإلكتروني*م. زيد خالد المعايطة

 الراي 

يمثل نظام الفوترة الإلكتروني الوطني في الأردن أحد أبرز الإصلاحات الضريبية والإدارية في السنوات الأخيرة، فقد شكّل التوسّع الذي شهده النظام في نيسان 2025 نقطة تحول مفصلية في هذا المجال، من خلال اشتراط إصدار الفواتير عبر منصة النظام للاعتراف بها لأغراض الخصم الضريبي ، وينطبق هذا الشرط على جميع المكلفين المسجلين ويشمل مجموعة واسعة من التعاملات، مما يعكس توجهاً نحو التتبع الفوري للمعاملات وتعزيز الشفافية المالية.
 
يرتكز النظام على مجموعة من الأهداف الضرورية والتي تتمثل في الحد من التهرب الضريبي، وتحسين كفاءة التحصيل، وبناء صورة أوضح للنشاط الاقتصادي الوطني. إلا أن نجاح النظام على المدى الطويل لن يتحدد فقط بفعالية الإلزام القانوني، بل بمدى تفاعل الأفراد والمؤسسات مع النظام واستجابتهم له، فرغم ان النظر الى هذا النظام كحل تقني، إلا أنه يشكل عملياً تحولاً سلوكياً يتطلب فهماً من واضع القانون لوعي وتجاوب الناس ، ولمشاعرهم وافكارهم ، ولقدراتهم على التكيف مع النظام الجديد.
 
تشكل الأنشطة الاقتصادية الفردية وغير المسجلة جزءاً كبيراً من الاقتصاد الأردني، ويشمل ذلك العاملين لحسابهم الشخصي، والمقاولين المستقلين، ومقدمي الخدمات من المنازل، والعاملين في اقتصاد العمل الجزئي والمنصات الرقمية، ولا يرتبط بقاء كثير من هؤلاء خارج الإطار الضريبي الرسمي بنية التهرب الضريبي، بل بواقع يفرضه عدم الفهم الكافي للإجراءات والتعليمات، وغياب الأدوات الملائمة لطبيعة أعمالهم، وضعف توفّر الدعم الفني والإرشادي، لا سيما في المناطق البعيدة عن المركز. وبالنسبة لهذه الفئة، لا يُنظر إلى نظام الفوترة الوطني كمنصة إلكترونية ضريبية فحسب، بل كاختبار حقيقي لقدرة الدولة على تطوير أنظمة تنسجم مع الواقع، وتُسهّل الاندماج، وتُضفي على الانخراط في المنظومة الاقتصادية الرسمية بُعداً عملياً وفائدة ملموسة.
 
بالنسبة لكثير من العاملين في القطاعات غير الرسمية، خاصة في المناطق خارج العاصمة، قد تبدو عملية التسجيل في النظام الرسمي معقدة او ذات احتمالية عالية للخطأ، ورغم أن تسجيلهم في النظام أصبح إلزامياً بموجب التشريعات الجديدة، إلا أن غياب الدعم الإرشادي وضعف أدوات التوضيح يدفع العديد منهم إلى التردد، خشية الوقوع في أخطاء أو التعرض لعواقب قانونية، وهنا تبرز الفرصة لإعادة تشكيل العلاقة بين الافراد العاملين والمنظومة الاقتصادية الرسمية إذ يتيح النظام الجديد للأشخاص التسجيل باستخدام الرقم الوطني فقط وإصدار فواتير رسمية عبر بوابة موحدة. غير أن هذه الإتاحة التقنية لا تكفي وحدها، بل يجب أن تُصمم المنظومة بطريقة تُراعي تجربة المستخدم وتُقلّل من الحواجز النفسية والسلوكية أمام الانخراط.
 
ولتوسيع قاعدة المسجّلين، لا بد من معالجة الحواجز العملية والنفسية التي تعيق الأفراد عن اتخاذ خطوة التسجيل، حيث تشير أدبيات العلوم السلوكية إلى أن الامتثال للأنظمة لا يتحقق فقط من خلال الإلزام، بل يتأثر أيضاً بسهولة الاستخدام، وتوقيت التفاعل، ومدى الثقة المتبادلة، والإحساس بالفائدة.
 
وعليه ومن هذا المنطلق، يمكن أن تشمل التحسينات واجهات استخدام مهيأة للهواتف، ونماذج فواتير مبسطة، وآليات تصحيح غير عقابية للأخطاء الأولى، لتقليل التردد والخوف، كما يمكن أن تتضمن السياسات حوافز سلوكية مدروسة مثل ربط الالتزام المنتظم بإمكانية الحصول على حوافز ضريبية أو تخفيض احتمال التعرض للتدقيق الضريبي، وعند تقديم النظام كأداة تفتح أبواباً وفرصاً، لا كوسيلة للرقابة، ليصبح الامتثال لهذا التشريع أقرب إلى التلقائية، وأكثر ارتباطاً بالتمكين المهني.
 
إلى جانب تصميم النظام، تلعب حملات التوعية والتواصل دوراً حاسماً. إذ أن زيادة تسجيل العاملين الأفراد تتطلب جهودًا تتجاوز الشرح التقني، فمن الضروري توفير جلسات تدريبية ومراكز مساعدة في مختلف المحافظات، لا سيما في المناطق التي تنتشر فيها أنماط العمل غير الرسمي. ويجب أن تركز هذه الحملات ليس فقط على "كيفية" استخدام النظام، بل أيضاً على "سبب" وجوده، كما ينبغي تقديم النظام كأداة لحماية النشاط الاقتصادي، وتوثيق الحقوق، وبناء ثقة متبادلة بين المكلف والإدارة الضريبية، فعندما يُفهم النظام كوسيلة للعدالة والإنصاف، لا كأداة للرقابة، يصبح الامتثال أكثر قابلية للتحقق، وأكثر ارتباطاً بالمعنى.
 
وتُظهر التجارب الدولية نجاحاً أكبر في تطبيق أنظمة الفوترة الإلكترونية حين تقترن الأدوات الرقمية بفهم سلوكي، ففي المملكة المتحدة، أدت تعديلات بسيطة في صياغة رسائل التذكير الضريبي إلى زيادة الالتزام، وذلك من خلال الإشارة إلى أن الغالبية قد التزمت بالفعل. أما في البرازيل، فقد شجعت الحكومة المواطنين على طلب فواتير رسمية مقابل دخولهم في سحوبات نقدية، ما عزز من شفافية السوق. وفي رواندا، ساعدت خدمات الدعم المتنقلة والرسائل الموجهة في تسهيل تسجيل الأعمال الصغيرة. ما يجمع بين هذه الأمثلة هو أن التحول الرقمي وحده لم يكن كافياً، بل كان مفتاح النجاح هو تصميم الأنظمة بما يتماشى مع سلوكيات الناس ومخاوفهم وتطلعاتهم.
 
يأتي نظام الفوترة الالكتروني في لحظة تسعى فيها المنظومة المالية الرسمية في الأردن إلى تعزيز الشفافية، وتوسيع القاعدة الضريبية، وتطوير النظم العامة بشكل أكثر عدالة واستجابة، فأثر هذا النظام لن يُقاس فقط بعدد الفواتير الصادرة إلكترونيًا، بل بمدى شعور الأفراد الذين كانوا على هامش المنظومة بأن لهم مكاناً عادلاً ضمنها. وعندما يتحقق ذلك، تتحول السياسة الضريبية من أداة للامتثال إلى وسيلة لإعادة بناء الثقة، وتوسيع مظلة الشمول، وإعادة رسم العلاقة بين دافع الضريبة ومحصلها.