الركود الاقتصادي الأميركي.. بين منحنى عائد منقلب وارتفاع أسعار الأسهم
الغد. مروان الزعبي
خلال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، يفيدنا التاريخ بأنه كلما شهدت الولايات المتحدة ركودا اقتصاديا، كان مسبوقا بمنحنى عائد منقلب Inverted Yield Curve يتمثل بارتفاع عوائد أدوات الخزينة قصيرة الأجل عن العوائد متوسطة الأجل وطويلة الأجل. ولذلك يعتبر هذا المنحنى مؤشرا استباقيا Leading Indicator للحالة الاقتصادية في غاية الأهمية ويدلل على أن الاقتصاد سيدخل في الركود. من جانب آخر، تعتبر أسواق الأسهم أيضا مؤشرات استباقية، فارتفاعها المستمر يعني أن النمو الاقتصاد سوف يتحسن في الفترة المقبلة، فأين تكمن الحقيقة؟ وكيف نفسر هذا اللغز الذي يصعب تبريره بالمؤشرات الاقتصادية الأساسية؟ وفي هذا السياق، لا بد من التمعن في أسواق الدين وخاصة سندات الخزينة الأميركية التي تعتبر المحرك الاساسي لبقية الأسواق فلقد شهدت اسعارها تراجعا حادا مدفوعا بارتفاع اسعار الفائدة الرئيسة وبأسرع وتيرة في تاريخ الولايات المتحدة بالإضافة إلى الإقبال غير المسبوق لبيع هذه السندات من قبل الكثير من الدول وفي مقدتها الصين مقابل شراء الذهب هروبا من أي أصول محررة بالدولار.
لقد أطلقت الولايات المتحدة العنان لسقف الدين المرتفع أصلا حتى بداية العام 2025 فارتفع رصيد الدين خلال شهر واحد بما يزيد على 1 تريليون دولار وضخ الفيدرالي أموالا طائلة (طباعة نقد) فيما بعرف بالتيسير الكمي خلال فترة كورونا وبداية هذا العام بسبب إفلاس ثلاثة بنوك، وهذا ما يخلق فقاعات في الأسواق المالية وخاصة أسواق الأسهم ويعزز من مستويات التضخم. هذه الحالة أدت إلى هروب الكثير من الاموال من سوق السندات نحو أسواق الأسهم وخلقت فقاعة كبيرة من المتوقع أن تنفجر في أي لحظة. ان هذه الفوضى الخلاقة لم تأت من القطاع الخاص وإنما من القطاع العام الذي من المفترض ان يلعب دورا رئيسا في استقرار هذه الأسواق وليس خلق تشوهات سيكون لها آثار عكسية واضحة. وهذا ما يفسر هجرة الاموال من أسواق السندات، على الرغم من ارتفاع عوائدها، إلى أسواق الأسهم فارتفعت أسعارها. ولذلك لم يأت تحسن أسواق الأسهم بسبب توقعات تحسن أداء الشركات أو تحسن النمو الاقتصادي بل بسبب هجرة الأموال من أسواق الدين والعقار والبنوك. لقد أظهرت بيانات الفيدرالي قبل عدة أشهر أن هناك ما يزيد على 700 بنك متعثر، تعاني من خسائر غير محققة تصل إلى 50 % من رؤوس أموالها، وحديثا أظهرت ان القروض الشخصية من بطاقات الائتمان ارتفعت بشكل هائل حيث ارتفع استهلاك المواطن الأميركي من الاقتراض بسبب إغراق البنوك ببطاقات الائتمان للافراد بحثا عن مصادر دخل جديدة الأمر الذي ساهم برفع مستوى التضخم خلال الفترة الماضية. ولذلك سيؤدي ذلك إلى ضعف القوة الشرائية بسبب تراكم الديون ويساهم في تباطؤ النمو.
المصادر الرسمية تقول إن تحسن سوق الأسهم جاء نتيجة لتحسن النمو والذي بلغ في نهاية الربع الاول من عام 2023 2 % مقارنة بتوقع مقداره 1.6 % وتحسن التشغيل حيث ارتفعت الوظائف الجديدة وبلغ معدل البطالة 3.6 %، وهو معدل منخفض. وكذلك تستند هذه المصادر إلى ارتفاع مشتريات المنازل بما نسبته 12.2 % وانخفاض معدل التضخم إلى 3 % في حزيران مقارنة ب 9 % في نفس الشهر من عام 2022. وفي المقابل يقول العديد من الخبراء إن هذه الأرقام غير صحيحة مستندين على ما يلاحظون في الشارع الأميركي من الارتفاع الكبير في أعداد المشردين Homeless وأعداد العاطلين عن العمل خاصة في الشركات الكبرى. أما بالنسبة لمشتريات المنازل، فالعديد من المنازل معروضة للبيع في الوقت الحاضر مقابل خصومات كبيرة، وإن معدل التضخم مرشح للارتفاع في لحظة لو ارتفعت أسعار الطاقة أو المواد الغذائية. من الواضح أن هناك تناقضا بين المؤشرات الأساسية وما يجري على أرض الواقع.
وفي الخلاصة، أرى التاريخ يعيد نفسه وأن منحنى العائد المنقلب يعطينا دلالات أدق من سوق الأسهم لأن هذا السوق أصبح منفصلا عن الاقتصاد، وهذه حالة نادرة، لأن الطبيعي أن ترتفع أسعار الأسهم عند توقع تحسن النمو. يضاف إلى ذلك أن حركة أسواق الأسهم جاءت مدفوعة بتحسن مجموعة قليلة من الأسهم التي تمثل قطاع الذكاء الاصطناعي. وأقول إن منحنى العائد المنقلب أكثر مصداقية لأن انخفاض عوائد السندات طويلة ومتوسطة الأجل عن العوائد قصيرة الأجل يحدث فقط عندما تكون التوقعات بحدوث ركود اقتصادي، وأرى أن أسعار الأسهم ستشهد حركة تصحيح كبيرة وستنخفض بشكل ملموس في الفترة القادمة وعندها ستهاجر الأموال من سوق الأسهم إلى أسوق البضائع وإلى الذهب وسوف نشهد ارتفاعات جديدة في معدل التضخم خاصة وأن معدل التضخم الأساسي ما زال مرتفعا ويبلغ بحدود 4.8 %.