الغد
لقد غدا موضوع البيئة ركيزة في الوعي المجتمعي، لكن تحويله من خطاب إلى ممارسة ملموسة ما زال مطلوباً بإلحاح. فالبيئة لم تعد عبئاً بل هي فرصة استراتيجية لتحويل تهديدات الأمن الغذائي وأسعار السلع إلى مكاسب، بينما يفضي إهمالها إلى اضطراب السلم المجتمعي بما لا يقل فتكاً عن الصراعات. مما يستدعي تكاتفاً لوقف انكماش الرقعة الزراعية وتقليص المراعي تأميناً للغذاء والدخل وتخفيفاً لفواتير التأمين الصحي.
يتجاوز الجفاف والاحترار الجانب البيئي ليضرب صميم الاقتصاد؛ فهما يعنيان تراجع المبيعات، نقص إنتاجية العمالة، وتزايد الغياب المرضي. والنتيجة تقلص الائتمان وهبوط الاستثمار بتسع نقاط مئوية.
تلعب الشركات دوراً محورياً في حماية صحة المستهلكين حين تتجنب استخدام البلاستيك أحادي الاستعمال، كالأكياس والزجاجات، الذي يلوّث المحيطات ويشكل بقع قمامة بلاستيكية هائلة في المحيط الهادي يستغرق تحللها قروناً، وخلالها تلك الفترة تتفتت إلى جسيمات دقيقة تهدد صحة الإنسان وترفع فاتورة الرعاية الصحية للمجتمع.
في الأردن تتركز جاذبية السياحة في الصيف والربيع، لكن موجات الحر القياسية رفعت مستويات التلوث، والخشية ان تضعف استقطاب الزائرَين الإقليميين والأوروبيين. لذلك حماية البيئة هنا تعني إيرادات إضافية للخزينة، ومزيداً من الوظائف السياحية التي تدعم المجتمعات المحلية.
وكما تؤثر البيئة على القطاع السياحي، فإن القطاع الخاص أيضاً يملك أدوات تأثير حاسمة في مسار الاستدامة، حيث تعد تلك التي تتبنى مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) الأفضل أداءً عالمياً؛ فهي تخلق فرصاً اقتصادية جديدة وتخفض التكاليف التشغيلية. فالشركات التي تربط الأداء البيئي بالمالي كمتلازمين تقلل انبعاثات الكربون وترفع عائد الأصول، ما يجذب المستثمرين لأسهمها ويكسبها ثقة المستهلكين.
وتقدم شركات الطاقة المتجددة – من مصنّعي الألواح الشمسية وتوربينات الرياح إلى مطوّري حلول التخزين – نموذجاً ناجحاً لهذا النهج، وكذلك شركات الأغذية العضوية أو النباتية، والملابس القائمة على المواد المعاد تدويرها. فالتدوير يلغي كلف التخلص من النفايات ويخلق تدفقات إيراديه من بيع المخلفات المعالجة، كما تؤكد تجارب دول عديدة حققت نمواً أخضر ملموس.
الممارسات المستدامة تخفض التكاليف وتزيد الإيرادات عبر رفع كفاءة الموارد وتقليل الهدر؛ فشركات رائدة ابتكرت سوائل جلي مقتصِدة للمياه مما زاد مبيعاتها، وأخرى اعتمدت آلات أكثر كفاءة تستهلك طاقة أقل وتنتج نفايات أقل. وقد جسدت بعض الشركات مبدأ الوقاية الاستباقية، فاستثمرت في حلول تمنع التلوث من المنبع، موفرة تكاليف المعالجة والتنظيف اللاحقة. كما تجني مؤسسات ESG مزايا تنظيمية حكومية حين تخف الرقابة وتقل الغرامات، وقد يؤدي الالتزام إلى دعم حكومي يمثل إيرادًا إضافيًا.
يعتمد نجاح هذه الممارسات على فريق متخصص مدعوم من أعلى الهرم الإداري سواء كانت وزارة، جهة حكومية، أو مجلس إدارة لأي شركة عامة أو عائلية – بحيث تدمج الاستدامة في الخطة الاستراتيجية ضمن مؤشرات أداء ربع سنوية يصدر بها تقرير سنوي.
ولا يقتصر الالتزام على القيادات؛ فتبني الاستدامة مسؤولية جماعية تقع على عاتق كافة العاملين تبدأ بالممارسات اللاورقية، مروراً باستخدام النقل الجماعي أو النظيف، والانتقال إلى المركبات الكهربائية وخاصة للقطاعات ذات فواتير الطاقة المرتفعة، إلى خفض فاقد المياه وتوسيع المساحات الخضراء وانتهاء باعتماد تقنيات ري مقنن تعمل بالطاقة المتجددة.
أخيراً، يجب ان ينهض القطاع الخاص بمسؤوليته القانونية والاجتماعية عبر تعويض بصمته الكربونية مالياً. ولا ننسى ضرورة استكمال الأطر التشريعية وتحويلها إلى إجراءات فاعلة تحسن المناخ، تزيد الرقعة الزراعية، تحفظ المياه، تقلل التلوث، وترفع إنتاجية الأرض ما عليها وما في جوفها.