الغد
أيهان كوسى وألين مولابديك وكوليت ويلر
واشنطن - مع دخولنا النصف الثاني من العام الحالي، تتباطأ التجارة العالمية جراء تصاعد الظروف المعاكسة. فالقيود التجارية التي استمرت لعقد من الزمن تفاقمت بسبب الزيادة الحادة في التعريفات الجمركية والإجراءات الانتقامية التي اتخذتها الاقتصادات الكبرى خلال الأشهر الثلاثة الماضية. ورغم التراجع عن بعض هذه الإجراءات منذ ذلك الحين وبدء مفاوضات جديدة، ما تزال المؤسسات والشركات تواجه تحديات كبيرة - منها ارتفاع حالة عدم اليقين بشأن السياسات، وإجهاد سلاسل الإمداد والتوريد، واستمرار التهديد بفرض حواجز جديدة. وفي مواجهة هذا الوضع، نستكشف كيف ستكون هذه الظروف المعاكسة على الأرجح سببا في إعادة تشكيل نمو التجارة في العامين الحالي والمقبل، ونحدد أشد المخاطر في المستقبل، ونسلط الضوء على الجوانب الإيجابية التي قد تساهم في استقرار حركة التجارة.
زيادة تباطؤ نمو التجارة في المستقبل
تشير توقعاتنا إلى تباطؤ نمو التجارة العالمية بشكل ملحوظ العام الحالي، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الآثار التراكمية لارتفاع التعريفات الجمركية وتزايد حالة عدم اليقين بشأن السياسات التجارية. ووصلت حالة عدم اليقين بشأن تلك السياسات إلى مستوى غير مسبوق في أعقاب الإعلان عن التعريفات الجمركية الأميركية في نيسان (أبريل) الماضي، لكنها خفت بعض الشيء منذ ذلك الحين مع تراجع الإدارة الأميركية عن بعض التدابير المقررة ودخولها في مفاوضات تجارية مع العديد من البلدان. وبعد البداية القوية للعام الحالي، التي تعود إلى أسباب عدة، منها التعجيل بعمليات تحميل السلع والبضائع وشحنها قبل البدء في تطبيق الزيادات الكبيرة في التعريفات الجمركية، من المتوقع أن يتباطأ النمو السنوي للتجارة العالمية من 3.4 % في العام الماضي، إلى نحو 1.8 % العام الحالي. وبالمقارنة مع توقعاتنا في كانون الثاني (يناير)، تم تعديل نمو التجارة العالمية للعام الحالي، بالنقصان بنحو 1.3 نقطة مئوية، حيث شهدت جميع مجموعات البلدان تقريبا تعديلات بالنقصان. وبهذه الوتيرة، سيكون التوسع التجاري أقل من نصف المتوسط السنوي البالغ نحو 4.9 %، في العقدين السابقين على جائحة "كورونا".
وكان التعديل بالانخفاض منذ كانون الثاني(يناير) أكثر وضوحاً في الاقتصادات المتقدمة - حيث من المتوقع الآن أن يبلغ نمو التجارة العام الحالي، نحو نصف التوقعات السابقة، في حين تواجه اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية تعديلا بالنقصان بنحو الربع. وتؤكد البيانات الأخيرة هذا التباطؤ، حيث انخفض حجم واردات السلع العالمية في نيسان (أبريل) بشكل حاد إلى 2.9 % على أساس سنوي (نزولا من 6.7 % في آذار (مارس) ، كما هبطت أحجام واردات السلع الأميركية بنحو 20 % على أساس شهري.
وتعزز المؤشرات عالية التواتر هذا الانخفاض واسع النطاق. فعلى سبيل المثال، تظهر مؤشرات مديري المشتريات في الصناعات التحويلية، التي تعكس سلامة هذا القطاع، تقلص طلبات التصدير الجديدة في أكثر من ثلثي البلدان التي تفصح عن بياناتها. وفي الواقع، تشير المؤشرات إلى أن هذه الطلبات انخفضت إلى أدنى مستوى لها خلال 20 شهرا في نيسان (أبريل)، وأنها ظلت منخفضة في الاقتصادات النامية قدرا أكبر من الصمود وانتعاشا أسرع. وقد ترتفع الصادرات في بعض البلدان المصدرة للنفط مع تخفيف قيود الإنتاج، على الرغم من ضعف الطلب العالمي. ويشير هذا التباين إلى أن الخصائص والسمات المميزة للبلدان وروابطها مع الأسواق، ستؤدي على الأرجح إلى اختلاف ملحوظ في النواتج بين المناطق، حتى مع الظروف المعاكسة التي تعيق أنشطة التجارة العالمية بشكل عام.
ما المخاطر الرئيسية؟
يواجه نمو التجارة العالمية مخاطر تطورات سلبية كبيرة في ظل سياسات سريعة التغير واستمرار حالة عدم اليقين. وقد نشهد رغبة أقوى من البلدان في فرض قيود تجارية مع عودة بعضها إلى ما أعلنته سابقاً من فرض تعاريف جمركية أعلى، أو توسيع نطاق التدابير الانتقامية، ما يترتب عليه آثار غير مباشرة واسعة النطاق. وقد تدفع هذه الإجراءات الأسواق (الخارجية) إلى فرض قيود تجارية خاصة بها لحماية صناعاتها المحلية، مما يضاعف الأثر السلبي على تدفقات التجارة والطلب العالمي. وإلى جانب هذه الضغوط على المدى القريب، فإن أوجه عدم اليقين طويلة الأجل التي تحيط بإعادة تنظيم سلاسل الإمداد والتوريد تفاقم مخاطر التطورات السلبية. فعلى سبيل المثال، قد تقوم الشركات بتأجيل قرارات إعادة هيكلتها بسبب عدم وضوح اتجاهات السياسات، مما يؤدي إلى إبطاء الاستثمار في استراتيجيات الشراء والتوريد الجديدة. وإذا استمرت الاقتصادات الكبرى في انتهاج السياسات التي تركز على شأنها الداخلي فقط، فقد يتمثل أثرها التراكمي في حدوث فترة طويلة من ضعف نمو التجارة، وما يرتبط به من ضعف الاستثمار وتباطؤ مكاسب الإنتاجية.
الاتفاقيات التجارية تكتسب زخما
على الرغم من تزايد القيود التجارية، فقد لجأت المزيد من البلدان إلى اتفاقيات التجارة الإقليمية، حيث يعد التكامل الإقليمي بين اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية مكملا للتكامل العالمي، وقد يكون بمثابة الحاجز الوقائي أمام التجزؤ العالمي. ووفقا لمنظمة التجارة العالمية، دخلت سبع اتفاقيات جديدة حيز التنفيذ في العام الماضي، ارتفاعا من أربع اتفاقيات في العام 2023، لكنها ما تزال أقل من نحو 10 اتفاقيات سنويا شهدها العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وتغطي العديد من اتفاقيات التجارة الإقليمية السلع والخدمات معا - كما يتضح على سبيل المثال في الاتفاقيات المبرمة بين الاتحاد الأوروبي وشيلي، وبين الاتحاد الأوروبي ونيوزيلندا، وبين الصين ونيكاراغوا، وبين الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة وبين كل من: مولدوفا وكندا وأوكرانيا. وتركز اتفاقيات أخرى من هذا القبيل، فقط على تجارة السلع، مثل الاتفاقيات بين الاتحاد الأوروبي وكينيا، وبين الصين وصربيا، وبين الصين وإكوادور. وتوصلت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مؤخرا، إلى اتفاق تجاري يتم بمقتضاه خفض أو إلغاء مجموعة من التعريفات الجمركية والحواجز غير الجمركية. وشهد تنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، تقدما في العام الماضي مع التوسع في مبادرة التجارة الموجهة، حيث تضافرت جهود جنوب أفريقيا ونيجيريا مع غيرهما من الاقتصادات الرئيسية، من أجل تسريع وتيرة التجارة بين البلدان الأعضاء. واكتسبت بعض المفاوضات التجارية زخما متجددا في الفترة الأخيرة. ففي كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، توسعت الاتفاقية الشاملة والتدريجية للشراكة عبر المحيط الهادئ لتشمل، المملكة المتحدة، وأعربت بلدان عدة أخرى، بما في ذلك الصين وإندونيسيا وكوريا الجنوبية، عن رغبتها في الانضمام إليها. وحتى العام الماضي، شكل هذا التكتل نحو 15 % من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وبالمثل، يواصل الاتحاد الأوروبي وهو أكبر تكتل تجاري في العالم، إجراء محادثات تجارية واستثمارية جديدة مع الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، وبمشاركة الشركاء مثل، كندا، أستراليا، الصين، الهند وكتلة "ميركسور" التجارية، الفلبين والإمارات العربية المتحدة. كما باشرت الإدارة الأميركية بالتفاوض بشأن إبرام أكثر من اثنتي عشرة اتفاقية تجارية إضافية.
الحفاظ على التجارة كقاطرة للنمو
على الرغم من أن التجارة العالمية ما تزال تحافظ على مرونتها، إلا أن هناك تباطؤا ملحوظا في نموها حاليا. وقد بدأت الحواجز المتزايدة وحالة عدم اليقين على صعيد السياسات، في إلحاق الضرر بالاقتصادات، مما يعرضها لمخاطر سلبية جسيمة. ومع ذلك، فإن الطبيعة غير المتوازنة لهذه الظروف المعاكسة، وتجدد الزخم وراء إبرام اتفاقيات تجارية جديدة وموسعة، تظهر أن الجهود المبذولة على صعيد السياسات جيدة التوجيه، يمكن أن تساهم في ترسيخ الاستقرار، التخفيف من الصدمات التي يتعرض لها النظام التجاري العالمي وتمهيد الطريق لتحقيق التعافي التدريجي.
لطالما كانت التجارة العالمية قاطرة قوية للنمو الاقتصادي على مدى عقود. ولذلك، يجب على واضعي السياسات اتخاذ إجراءات حاسمة الآن. ومن الضروري تخفيف حدة التوترات، وتعزيز المفاوضات التجارية، والحد من القيود، وتنويع سلاسل الإمداد، وفتح أسواق جديدة للحفاظ على هذه القاطرة وتجاوز فترة طويلة مقبلة من ضعف التوسع في التجارة.
* خبراء في البنك الدولي