أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    23-Mar-2020

الدين العام..... مواجهة الأعباء*محمد أبوحمور

 الراي

يواجه وطننا اليوم، كما هي سائر دول العالم، ظروفاً استثنائية لم يشهد لها الجيل الحالي مثيلاً، وقد أثبتت الدولة الاردنية بمختلف مؤسساتها ومكوناتها القدرة على اتخاذ اجراءات حازمة وجدية تتناسب وطبيعة التهديدات المحتملة لحياة المواطنين، كما أثبت المجتمع الاردني قدرته على تفهم طبيعة المرحلة وضرورة التعامل معها بما تتطلبه من تحديات، والتلاحم الذي نشهده بين مؤسسات الدولة ومواطنيها يؤكد مرة اخرى ان الاردن قادر على مواجهة الصعوبات والتحديات بمسؤولية عالية اثبتت انها تفوق المستوى الذي تم التعامل به مع نفس الحدث في بلدان اخرى تتفوق علينا بمقدراتها وامكانياتها المادية والبشرية والتكنولوجية، وهذا الامر يرسخ لدينا القناعة ان الاردن ليس قادراً فقط على مواجهة التحديات المختلفة وانما ايضاً لديه من العزيمة ما يؤهله لتحويلها الى فرص، فالدولة الرشيدة والشعب الواعي يمكنه ان يحول العقبات التي تعترضه الى سلم للنجاح والتطور، وفي هذا الاطار ومن منطلق الثقة بالوطن والمواطن يمكن ان ننظر الى أحد أهم التحديات الاقتصادية التي تواجهها المملكة وأعني هنا تحدي الدين العام وأثاره الاقتصادية والاجتماعية.
 
سبق وان ناقشنا العديد من الجوانب المتعلقة بالدين العام بشقيه الداخلي والخارجي، وأوضحنا الاثار المترتبة على الارتفاع المضطرد للدين خلال العقد الاخير، كما بينا المؤشرات المختلفة للدين بما في ذلك هيكله والاعباء المترتبة عليه ومصادره واجاله وغير ذلك من الجوانب، وقد اٌن لنا ان نتساءل: الى متى يمكن الاستمرار على نفس الوتيرة ؟ وهل من الممكن المضي قدماً في مراكمة الدين العام دون وجود تصور أو خطة لمواجهة ما يترتب عليه من أعباء أو ما يشكله من تهديدات، خاصة اذا علمنا ان نسبة النمو في صافي الدين الداخلي نهاية العام الماضي بلغت ما يفوق 11% مقارنة بالعام الذي سبقه، أما صافي الدين العام فقد بلغت نسبة نموه خلال نفس الفترة أكثر من 7%، وتجاوزت نسبة نمو اجمالي الدين العام 6%، واذا أخذنا في الاعتبار تواضع نسب النمو الاقتصادي التي لا تكاد تصل الى 2% سندرك حتماً اننا أمام مسؤولية تتطلب منا التفكير جدياً والمبادرة الى اتخاذ اجراءات عملية لمواجهة هذا التحدي، الذي وان كان لا يشكل تهديداً مباشراً لحياة المواطن الا ان اثاره ستنعكس حتماً على مستوى معيشة المواطنين ونوعية الخدمات التي تقدم لهم وقدرتهم على تحقيق طموحاتهم وامالهم.
 
لكي نستطيع التعامل مع الدين العام ومواجهة اعبائه لا بد لنا من التعاطي مع هذا الموضوع من خلال العديد من الزوايا، أولها مباديء عامة نحتاج لادراكها ومن أهمها اننا لا يمكن ان نستغني عن الاستدانة في المدى المنظور على الاقل،كما لا بد من الاقرار بانه لا توجد حلول سحرية اٌنية تنهي مشكلة المديونية، والأهم من ذلك ضرورة العلم بان الدين العام هو نتيجة لحزمة من السياسات الاقتصادية للدولة وخاصة المالية منها، لذلك فمن الانسب ان ننطلق لمواجهة السبب وليس الاعراض، وثانيها هو تحديد هدف أو عدد منها وقد يكون الاساس هنا هو موضوع قدرة الاقتصاد الوطني على مواجهة أعباء الدين، وينعكس ذلك عبر المؤشرات المختلفة للمديونية، أضف لذلك موضوع استعمالات الدين وانعكاساتها الحالية والمستقبلية على مجمل الاوضاع الاقتصادية، أما ثالث هذه الزوايا فهو التعامل مع تحدي المديونية من منظورين زمنيين قصير المدى ومتوسط أو طويل المدى، أما من حيث التعاطي المباشر مع الدين العام فمن الممكن ان نأخذ في اعتبارنا المنظور الكلي للاقتصاد واخر جزئي يتعلق بادارة المديونية بطريقة كفؤة وفعالة، ومن المفهوم ان هناك العديد من التفاصيل المتعلقة بكل جانب من الجوانب التي تمت الاشارة لها، قد يكون من الافضل ان يتم تناولها في اطار رؤيا كلية واستراتيجية واضحة المعالم ومؤطرة زمنياً وفقاً لمؤشرات اداء قابلة للقياس والتنفيذ وخاضعة للمساءلة.
 
عادة ما يشار الى ان التعامل مع عجز الموازنة العامة هو أولى الخطوات الفعالة لتخفيض اعباء الدين، فالامر هنا يتعلق بمعالجة سبب المديونية الرئيسي ومن خلاله يمكن الانطلاق للنظر في الجوانب الاخرى المتعلقة بالدين العام، ولغايات التوصل لمعالجات فاعلة للعجز لا بد من الاهتمام اولاً ببناء الموازنة على اسس علمية وبرامجية ترسخ التوجه نحو تحقيق اداء متميز ونتائج محددة واهداف كلية منسجمة مع الاوضاع الاقتصادية المحلية، وفي هذا الاطار فنحن نتحدث عن تقليص الانفاق غير المنتج، وتخصيص افضل للانفاق العام موجه نحو الاولويات ويحقق الاهداف التنموية، وفي نفس الوقت العمل على حشد الايرادات المحلية ليس من خلال زيادة نسب الضرائب او الرسوم بل من خلال تحسين جبايتها والحد من التهرب الضريبي، مع رفع مستوى كفاءة الادارة المالية بشكل عام في ظل اجراءات اقتصادية اصلاحية يكون هدفها الاساس رفع نسب النمو الاقتصادي وتحسين توزيع الثروة، ففي النهاية لا بد لنا ان نحسن النمو الاقتصادي عبر تحقيق الانسجام بين السياسات الاقتصادية المالية والنقدية والصناعية والتجارية والاستثمارية، وازالة مختلف المعيقات التي يمكن ان تواجه الانشطة الاقتصادية اضافة الى السعي لتوفير البيئة الجاذبة والمحفزة للاستثمارات، فهذا النهج هو الذي يساهم في زيادة الايرادات الناجمة عن التوسع في النشاط الاقتصادي ويرفع نسب النمو، والنتيجة الطبيعية لذلك هي تقلص الحاجة للاقتراض ورفع القدرة على مواجهة اعباء الدين وانخفاض نسبته الى الناتج المحلي الاجمالي، ولدينا في الاردن العديد من المبادرات التي تشجع هذا النهج بما في ذلك العناية بالمشاريع الريادية والمشاريع الصغيرة والمتوسطة وغيرها، وبالتوازي مع ذلك لا بد من توفير ادارة كفوءة وفاعلة للدين العام، تكون قادرة، في ظل الاطار التشريعي المتوفر والمتمثل بقانون الدين العام وادارته، على القيام بمختلف المهام المتعلقة بالمديونية بما في ذلك تقديم الدراسات اللازمة حول المزيج التمويلي المناسب من الدين بشقيه الداخلي والخارجي، والعمل على استكشاف امكانية اجراء عمليات اعادة هيكلة تساهم في تخفيض الاعباء واعداد خطة للمخاطر المرتبطة بالمديونية والاستمرار في رصد ونشر الاحصاءات المتعلقة بالدين العام وتحديثها بما يساهم في توفير معلومات تفصيلية تتيح اتخاذ القرارت المناسبة في وقتها، وما من شك في ان دعم الاطار المؤسسي لادارة الدين العام تشكل جانباً مهما لتوفير الارضية التي يمكن الاعتماد عليها لدراسة مختلف الجوانب المتعلقة بالمديونية والحفاظ عليها ضمن الحدود الامنة والقابلة للسيطرة، مع مراعاة توزيع الاعباء بين الاجيال المختلفة وبالتالي الحرص على احتساب الاعباء المستقبلية للدين العام ضمن توجهات النمو الاقتصادي المستقبلية، وقد يكون من الضروري البدء في العمل جدياً لتحديد فترة زمنية ملائمة يتم خلالها الالتزام بالاحكام الواردة في قانون الدين العام والمتعلقة بنسب المديونية التي لا ينبغي تجاوزها.
 
ولعله من المهم ايضاً الاستفادة من المصادر التمويلية المتوافرة لتقليص الاعتماد على الدين كمصدر لتمويل عجز الموازنة او لتمويل المشاريع الراسمالية، فالاردن حالياً لديه اطار تشريعي يتمثل في قانون صكوك التمويل الاسلامي الذي يتيح الاستفادة من ادوات التمويل الاسلامية لاقامة مشاريع استثمارية وتنموية متعددة، كما أن قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص يوفر ايضاً أداة تمويلية مجربة لأقامة مشاريع حيوية قد لا يمكن توفير التمويل اللازم لها من خلال الموازنة العامة للدولة، وفي نفس الاطار يجب ان لا ننسى ان المشاركة الفاعلة للقطاع الخاص تشكل لبنة اساسية في جهود التنمية الاقتصادية وعاملا فاعلا في رفع نسب النمو وتوفير فرص العمل، ولتوفير مقومات النجاح لرفع نسب النمو الاقتصادي لا بد من التفكير باصلاحات تشريعية وضريبية تدعم وتعزز دور القطاع الخاص اضافة الى أجراءات عملية على أرض الواقع مثل مكافحة الفساد، والارتقاء بمستوى إنتاجية القطاع العام عبر رفع كفاءة الجهاز الحكومي وفاعليته،وترسيخ مبدأ سيادة القانون في الإدارة العامة،وبناء ثقافة مؤسسية تستند إلى مفهوم الخدمة وأخلاقيات العمل.
 
تولد لدى الحكومة خلال الأشهر الاخيرة قناعة مفادها ان سياسة زيادة الاعباء الضريبية لا تجدي في الظروف الحالية وهذا تطور ايجابي تجلى خلال المفاوضات التي جرت مؤخراً للاستمرار في نهج الاصلاح الاقتصادي، وهذه القناعة يمكن اثباتها عملياً من خلال الاهتمام بالقطاعات المنتجة والمدرة للدخل والتي تساهم في النمو الاقتصادي، فقد بات واضحاً ان تخفيض العجز وتقليص أعباء المديونية لا يتم من خلال زيادة الاعباء على المواطن والقطاعات الاقتصادية وانما من خلال ضبط الانفاق وتحفيز النمو ومعالجة التشوهات الاقتصادية، وإعادة النظر في أسلوب إدارة الملفات الاقتصادية، مع الاعتراف باساس هذه التحديات والمتمثل في حجم القطاع العام، وهذا يتطلب إرادة وكفاءة وقدرة على التعاطي مع المستجدات تستند الى رؤية شاملة.مع توفر تصور واضح للاطار الزمني الذي يستغرقه هذا الامر، ومن المفيد التذكير بان الانجازات تتحقق من خلال الادارة الجيدة القادرة على ترجمة خطط عملها لبرامج واجراءات وخطوات تنفيذية محددة، مع التطبيق العلمي والعملي لمبادىء المحاسبة والمساءلة والحكم الرشيد والإدارة النزيهة.
 
من المستبعد ان نستطيع خلال الفترة الراهنة أو حتى في المستقبل القريب ان نستغني عن الدين كأحد المصادر التمويلية، أو ان نخفض حجم الدين العام بالارقام المطلقة، ولكن لا زال ضمن امكانياتنا ان نقلص الاعتماد على الدين كمصدر تمويل وأن نستفيد من المصادر التمويلية الاخرى المتاحة، كما أن لدينا ايضاً امكانية العمل لتقليص أعباء خدمة الدين عبر الادارة الحصيفة وعمليات اعادة الهيكلة، أضافة الى ان لدينا امكانية الحد من الزيادة المفرطة في نسبة الدين العام وبحيث لا تتجاوز نسب النمو في الناتج المحلي الاجمالي، وبأمكاننا ان نحدد استعمالات الجزء الاكبر من الديون لتقتصر على المشاريع الراسمالية، كل ذلك يمكن ان يشكل مقدمة للتعاطي البناء والرشيد مع أعباء المديونية وسبيلاً للسير قدماً في تخفيض أعبائها.
 
في كل المراحل وعبر الفترات الزمنية المختلفة استطاعت المملكة مواجهة العديد من التحديات والتغلب عليها، وبالرغم من أن معضلة الدين العام التي نواجه حالياً هي نتاج عقد من السياسات التي فرض بعضها ظروف خارجية، وتساهلنا في جانب منها بارادة منا، الا ان الوقت لا زال متاحاً للمباشرة في التصدي لهذا التحدي والبدء في الحد من الانزلاق نحو مزيد من الدين مع ايلاء الاهتمام الاساسي لجوانب القوة في اقتصادنا الوطني وعوامل نموه وازدهاره.