أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    25-Oct-2018

فقر صامت في البادية الأردنية

 الغد-أحمد أبو خليل

 رغم أن الفقر على المستوى الوطني يقاس بمعايير وحسابات موحدة، إلا أن الاقتراب من الظاهرة في الميدان سيكشف عن قدر كبير من التنوع في "مواصفات" الفقر. ومع أن الأردن من الدول صغيرة المساحة نسبياً، إلا أن المتابع لا بد سيلاحظ الفروقات في الفقر بين المدينة والريف والبادية.
وفي المواد والتحقيقات المعدة لغايات النشر في وسائل الإعلام، فإن على الصحفي أن يختار الأداة المناسبة للكشف عن مظاهر الفقر، فقد تكون الكاميرا مفيدة ومناسبة لرصد ظواهر الفقر في موقع، ولكنها لا تؤدي الغرض في موقع آخر، فليس بالضرورة أن تكون الظواهر الاجتماعية مثل الفقر، مرئية وقابلة للتصوير، وقد تكون الكلمة هي الأسلوب الأمثل، بل إنك في المناطق الفقيرة الملوثة مثلاً تحتاج إلى حاسة الشم للتحقق من الفقر!
شاركت قبل سنوات في مهمة إجراء تحقيق عن الفقر في إحدى مناطق البادية الشمالية، وعندما دخلنا إلى واحدة من قرى تلك المنطقة، واجتزنا شوارعها الخاوية الهادئة، ومررنا ببيوتها المغلقة، التي يوحي منظرها أنها خالية من السكان، تساءل أحد الشباب المرافقين وقد كان يحمل كاميرا: أين هم الفقراء؟ إنني لا أرى فقراً! انظروا إنهم يقطنون في بيوت مستقلة!
بالفعل، فأنت في أغلب قرى الريف والبادية الأردنية لا ترى بسهولة مظاهر فقر واضحة، والفقر هناك مستورٌ ومتوارٍ خلف جدران المنازل، ولا يفصح عن نفسه لمن يكتفي بنظرة خارجية، والفقراء في هذه القرى والتجمعات السكانية، لن تراهم أمامك في الشوارع، ولا يطل فقرهم من أبواب منازلهم المغلقة بصمت، ولولا أنه بين فترة وأخرى، يحصل أنْ يتحرك رجلٌ، أو تطل امرأة، أو يصيح طفل، أو تتحرك سيارة أو دابة، فإن الزائر من خارج المنطقة قد يظن أن القرية مهجورة وخالية من السكان.
بيت مستقل!
بيوت قرى البادية مستقلة ومتباعدة، وهذا هو حال القرية التي زرناها وتوقفنا عندها والتي تقع إلى الشرق من مدينة المفرق. ويعود تباعد البيوت إلى كونها بيوتا مملوكة لساكنيها، وهو ما قد يعطي الزائر من خارجها صورة مناقضة لمواصفات الفقر المعتادة، وذلك بالقياس إلى حالة المدن التي تعد فيها حيازة البيت المستقل، من مواصفات الغنى أو الوضع المالي الجيد.
لكن بيوت تلك القرى المستقلة، جرداء، بلا أسوار، إلا إذا احتوى البيت على "زريبة" للأغنام والماعز مما يوجِب بناء سور حجري متواضع، ثم إن البناء يكون بأخفض المواصفات؛ فالأعمدة لا تتكون عادة من أكثر من أربعة قضبان من الحديد تتضح على نهايات الأعمدة فوق زوايا البيوت، ولما كان البناء يشترط التصميم الهندسي والترخيص الرسمي، فإن لدى المكاتب الهندسية العاملة في مركز المحافظة، نماذج جاهزة تقدمها لصاحب البناء بينما يجري التنفيذ بحسب العُرْف والعادة، فالبيت كثيراً ما يكون عبارة عن غرفتين متجاورتين، أو أربع غرف بينهما ممر. وقد صُممت فتحات الأبواب والشبابيك بما يتواءم مع مواصفات الأبواب والشبابيك "الخردة"، التي يحضرها أناس مختصون إلى هذه المناطق، بمعنى أنه، على صاحب البيت، أنْ يحسب أبعاد الأبواب والشبابيك بحسب ما هو متوفر منها في سوق "الخردة".
تدهور الرعي
العمل الأصلي للسكان؛ أي خبرتهم التاريخية، كانت تتركز في مجال الرعي بشكل أساسي، لكن كل هذا القطاع؛ أي قطاع تربية الحيوانات، تدهوَرَ بشكل كبير بسبب سنوات المحل والجفاف المتتالية، ولكن أيضاً بسبب سياسات رفع الدعم عن الأعلاف التي اتبعتها الحكومات المتتالية أيضاً منذ العقد الثاني من تسعينيات القرن العشرين، والتي أدت إلى عدد من الارتفاعات الكبيرة في أسعار الأعلاف، وهو ما دفع إلى تقليص حجوم ملكيات الأغنام والماعز، أو الاضطرار إلى بيع جزء منها للإنفاق على الآخر. وتستطيع أن ترى هنا وهناك بعض القطعان الصغيرة وقليلة العدد التي انتشرت زرائبها بين المنازل.
محدثنا، وهو شاب في منتصف الثلاثينات من عمره، نموذج للكثيرين ممن أسهم تدهورُ قطاع الرعي في دخولهم في دائرة الفقر الخاص بتلك المناطق، فهو ابن لأسرة كانت تعمل في الرعي، ولكن ملكية الأب تقلصت إلى درجة أنها لم تعد تكفي لتشغيل الجميع، واضطر الأب للبيع التدريجي لأغنامه لكي يتمكن من الإنفاق على ما تبقى من قطيعه، وهو ما دفع محدثنا الابن الذي تزوج منذ 3 سنوات إلى مغادرة منزل والده وبناء خيمة بائسة على أطراف القرية، بينما استمر يتحصل على رزقه من خلال ما توفره شبكة العلاقات القرابية وعلاقات الجيرة من دعم غير منتظم.
أقيمت في المنطقة المحيطة بعض المزارع الكبيرة، إلى جانب آبار المياه الارتوازية، ولكن نظام العمل في هذه المزارع لم يستوعب متطلبات السكان، فالرجال لا يجدون عملاً بالحد الأدنى من المتطلبات التي تتناسب مع الثقافة السائدة. وبالنتيجة، فإن هذه المزارع تشغّل النساء فقط بين الساعة السادسة صباحاً والثانية بعد الظهر؛ حيث تعود النسوة إلى بيوتهن لممارسة باقي الأعمال المنزلية الاعتيادية.
حمام مشترك
الحي الذي زرناه مكون من بيوت متباعدة، وقد اتفق الساكنون على بناء حمّام مشترك يتوسط هذه المباني، فليست هناك تمديدات صحية داخل البيوت، وتنقطع المياه في كثير من الأحيان، ولهذا يعتمدون على مياه خزان إسمنتي مشترك أقيم فوق سطح الأرض يتوسط البيوت أيضاً، وقد يجلبون المياه من المدرسة القريبة. وفي فصل الصيف فإن على البيت الذي فيه ثلاجة أن يقدم المياه الباردة إلى البيوت الأخرى.
لم يعد الناس قادرين على الوفاء بالتزامات العلاقات القرابية؛ بمعنى أنهم يفتقدون اليوم إلى آليات الحماية التقليدية التي كانت توفرها لهم علاقات القرابة سابقاً، وكل ما تبقى من أثر لعلاقات الانتماء العشائري، هو أنها حمتهم من الوقوع في وضعية الإقصاء أو الغربة عن المجتمع، أو عدم التفاعل مع مؤسساته، فهم على سبيل المثال يشاركون في الانتخابات النيابية التي تعد حدثاً مهماً عندهم جميعاً، فقراء وأغنياء؛ حيث تبلغ نسب المشاركة في العادة أرقاماً هي الأعلى مقارنة مع باقي المواقع في البلد ككل، وفي هذه المنطقة، فإن السكان، كثيراً ما يلجؤون إلى توزيع أصواتهم بين المرشحين من أقاربهم خشية أن يغضب منهم طرف ما.
هو إذن فقر، ولكنه بمواصفات محددة خاصة تختلف بين موقع وآخر، تتداخل فيها عناصر الاقتصاد مع المجتمع والثقافة، ولا مفر أمام مَن يريد التداخل والمعالجة، من الاقتراب من الموضوع بأدوات ومنهجية خاصة تراعي كل تلك المواصفات.