الغد-أتذكر الآن لأغراض هذه المقالة (ما يعني أنني سوف أتذكر أكثر بعد انتهائها) المحلات التجارية التي كنت أعرفها وأتعامل معها، وأصحاب المهن والحرف الذين كنت أحد زبائنهم، الشباب والصبايا الذين كانوا يطبعون مقالاتي على الآلة الكاتبة ثم أجهزة الكمبيوتر، وأجلس بجانبهم نصحح المقالات ونتجادل، والمخرج الصحفي الذي كان يعد "بروفات" الصحيفة، ويفاوضني دائما على الحجم المتاح وما يمكن اختصاره، وفي غيابي يقص المادة بالمسطرة والسكين كيفما اتفق! ويخفف المدقق اللغوي الذي اختفى هو أيضا من غضبي بالقول: ومن يقرأ لك غيري يا أستاذ؟ المحلات التجارية التي كانت توفر خدمة الاتصال الهاتفي، وغالبا ما يكون محطة اتصال وأخبار أيضا، يبلغني الرسائل (مجانا مكتفيا بأني أشتري من عنده).. اختفت الهواتف واختفت المحلات أيضا، ابتلعتها المولات العملاقة، وصاحب المكتبة الذي كان ينسخ لي الكتب والأوراق ويحجز الصحف والمجلات العربية حتى لا يسترجعها الموزع! ماذا حدث للمجلات الأسبوعية التي كنا نعتقد أنها تصوغ رؤيتنا للأحداث والصراعات؟ والمجلات الأدبية والثقافية والترفيهية التي كنا نترقبها بلهفة؟ وماذا حدث لـ"أبو هيثم" صاحب المكتبة؟ أغلقت المكتبة، ولم أعد أعرف عن أسرته وأطفاله ومدارسهم وقصصهم، ولم أعد أشتري الصحف والمجلات المتبقية، ولم أعد أصوّر ورقا ولا كتبا، والشباب الذين شعروا بالزهو والتقدم عندما استبدلت بأدواتهم أجهزة الكمبيوتر اختفوا هم أيضا، لم تعد المؤسسات تحتاج إليهم، فالصحفيون والباحثون يعدون أعمالهم على أجهزتهم من الألف إلى الياء! والشاب الذي جهز لي في البيت مجموعة الكمبيوتر بخمسة عشر ألف دولار وأقنعني بأهمية الصفقة بعد انخفاض الأسعار في دول نمور آسيا؛ اختفى ولم تعد مجموعتي العظيمة التي اشتريتها بالتقسيط على أربع سنوات تساوي شيئا بالنسبة لجهاز اللابتوب الذي اشتريته بخمسمائة دولار، واختفى من قبل أيضا جهاز الفاكس ومعه الشاب الذي كان يزورني بانتظام لصيانة الجهاز وتزويده بورق الفاكس الخاص، كان جهاز الفاكس حدثا عظيما في حياتي، لم أعد في حاجة لإرسال مقالات بالبريد، وماذا حدث للبريد والعاملين فيه؟ تلك قصة طريفة تحتاج إلى مقال مستقل وربما أكثر! أين هم كل هؤلاء وغيرهم؟ لم أعد أتذكرهم، ولا أعلم أين هم اليوم؟ بل لم أعد أتذكر أسماء أكثرهم.