أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    16-Aug-2018

التنمية تحت ضغط السياسة.. مقارنة بين زمنين

 الغد-أحمد أبو خليل 

هذه ليست المرة الأولى في تاريخ الأردن المعاصر، التي تترافق فيها الأزمة الاقتصادية مع ظروف سياسية صعبة داخليا وخارجياً. ولكنها قد تكون المرة الأشد في حجم ونوع الارتباك عند المخطط وصاحب القرار. ويمكن الزعم بأن هذا الكلام يصح إذا تناولنا العقود الستة الماضية على الأقل؛ أي منذ تبنت الدولة مهام التخطيط للتنمية والاشراف عليها، إذ قبل ذلك كانت العمليات الاقتصادية عموما تجري على مستوى المجتمعات المحلية الصغيرة، وبالحد الأدنى من حضور الدولة المركزية.
في السطور الآتية، نطل باختصار شديد، ومن خلال ملاحظات سريعة، على ملامح تجربتين كان على المخطِّط التنموي فيهما أن يواجه مهماته في ظروف سياسية غاية في الصعوبة والتعقيد، وهدفنا من ذلك هو الاطلاع على الفارق في نمط الاستجابة للأزمة وإدارتها، بين الماضي والحاضر، شكلاً ومضموناً.
وفي المحصلة سوف يدافع هذا المقال عن إمكانية وضرورة الاستفادة من نمط إدارة الأزمات في السابق، من حيث الجوهر بالطبع؛ أي مع تقدير اختلاف الظروف بشكل كبير بين الأزمنة.
التجربة الأولى تعود إلى مطلع ستينيات القرن الماضي، فيما تعود التجربة الثانية إلى مطلع سبعينات القرن ذاته.
ففي مطلع الستينيات، كان الأردن يعيش فترة قاسية في العلاقة مع الدول المحيطة، التي كانت بدورها تشهد تقلبات سياسية داخلية حادة. ففي ذلك الزمن، كان الأردن محاطاً بالخصومات السياسية المعلنة (مع العراق وسورية ومصر) مع تقلب في العلاقة مع السعودية، إضافة إلى العدو المحتل غربا.
شهدت تلك الفترة ما يمكن تسميته "صراع النماذج التنموية" في المنطقة، فالعراق وسورية ومصر كانت قد تبنت أشكالاً متنوعة من النمط "الاشتراكي"، فيما كان الأردن قد بدأ يتحدث عن طريق ثالث بين الاشتراكية والرأسمالية مع أنه أعلن تبنيه لما كان يعرف بالاقتصاد القائم على الحرية الفردية مع ضوابط. (تسمية الطريق الثالث استخدمت فعلاً آنذاك في الخطاب الرسمي).
شكّل ما عرف بـ"برنامج السنوات السبع 1963-1970"، أول تجربة أردنية في التخطيط للتنمية الاقتصادية، والواقع أن المؤشرات المعلنة والخطاب الرسمي المنشور يتحدث عن مستوى مقبول من الانجاز، لكن حرب حزيران 1967 قطعت الخطة وعطلتها.
لنقرأ على سبيل المثال الكلمات الآتية من مقال نشره المرحوم الدكتور خليل السالم، مؤسس البنك المركزي والاسم الأبرز في ميدان الاقتصاد خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، والمقال منشور العام 1966 في مجلة "المصارف" اللبنانية الشهيرة آنذاك:
"العدل والعدالة الاجتماعية، فلا أوامر عسكرية أو حزبية، ولا اعتماد على حرب الطبقات واستعداء الأخ على أخيه. ودون الالتزام بحكمة مستوردة، أو عقيدة اقتصادية منزلة... والاهتمام بالثروة البشرية عن طريق النهوض بالنظام التربوي والاهتمام بالمدينة"... "فإذا وفرت الدولة للمواطن الغذاء والكساء والدواء والاستشفاء، ليطمئن قلبه من أية مخاوف، اعتز بشرف الانتماء إلى وطنه، ودفع بحياته ثمنا للحفاظ على نظامه، وحق لهذا النظام الذي يعيش المواطن ويمارس نشاطه في ظله، أن يمكّن لجذوره في الأرض، وأن ينشر خبرته وتجربته في الخافقين".
يفيد الأرشيف أن الدولة استخدمت التنمية كسلاح للرد على الخصوم السياسيين الأقوياء الذين كانوا يضغطون لتبني النماذج المتبعة في الدول المحيطة. ويفيد أرشيف المعارضة بأن هذا السلاح كان أشد أثراً من سلاح القمع السياسي المباشر.
لم يكن هذا المنطق مقتصرا على الخطاب الاقتصادي الرسمي، وفيما يلي مثلاً، مقتطفات من إعلانين نشرتهما شركتان صناعيتان في مطلع الستينيات:
الإعلان الأول، حول مصنع ألبان يعلن بدء الاكتتاب في أسهمه، ويبتدئ بعبارة تقول: "الواجب الوطني يدعوك إلى المساهمة". وفي متن الإعلان نقرأ مثلاً: "مصنع برأسمال وطني أردني"، "شركة قامت على الدعم ورأس المال الوطني، والأخصائيون العاملون فيها، وجميع عمالها وموظفيها، هم من أبناء وطننا العزيز".
أما الإعلان الثاني فعن مصنع منظفات، يقول في مطلعه: "إلى إخواننا المواطنين، إلى كل من يلبي نداء الواجب القومي، لقد قمنا بمشروع صناعي جبار لا يقدم عليه إلا من ملأ قلبه الإيمان بوعي بني قومه". وفي التفاصيل نقرأ أن: "المصنع يوفر ما لا يقل عن عشرين ألف دينار (في الستينات) مما ينفقه المواطنون على الصابون الأجنبي، وأن المصنع ينعش الفلاح عن طريق فتح باب واسع لاستهلاك زيت الزيتون في صناعتنا".
وفي مطلع السبعينيات، وبينما كان الأردن بواحدة من أقسى ظروفه السياسية والأمنية، تقرر الحكومة عقد مؤتمر دولي في عمان بمشاركة ممثلين لحوالي 40 دولة بهدف مناقشة الخطة الاقتصادية التي وزعت مسودتها على المشاركين، ويلقي خليل السالم الكلمة الرئيسية، ولكن من اللافت تأكيده في أكثر من موقع على أن الخطة هي "إنجاز وطني بالكامل، من دون أي تدخل أو إيحاء غير أردني".
لاحظوا أن الافتخار حينها كان بـ"الوطني" مقارنة بما هو حاصل حالياً حيث يعتز المخطط بعدد الخبراء الذين تمت الاستعانة بهم!!
لقد فُهمت التنمية كعملية شاملة، ولم يكن السعي نحو نسب النمو أمراً ملحاً، بل الأساس هو محتوى النمو. والسالم يشرح مفهوم الدولة للعلاقة بين القطاعين العام والخاص. إلى ذلك الوقت كان الخطاب الرسمي يتحدث علناً عن عدم السماح لرأس المال بالتسلط على الدولة، بل العكس.
لكن تعالوا نطالع كيف نوقشت شؤون الاقتصاد والتنمية في ذروة الأزمة أي في العام 1971، ففي ذلك الوقت، بدأ المرحوم فهد الفانك بتأسيس أول صفحة اقتصادية متخصصة في الصحافة المحلية، وقد حملت اسم "الزاوية الاقتصادية"، وقد أجرى ابتداء من منتصف العام 1971 عشرات الحوارات مع شخصيات اقتصادية حول الأزمة والخروج منها، ثم نشرت تلك المقابلات في كتاب.
الشخصيات التي حاورها المرحوم الفانك، تضم وزراء عاملين وأمناء وزارات، ولكنها تضم أيضاً رئيس الجامعة الأردنية (الوحيدة آنذاك) ورؤساء كليات التجارة والاقتصاد والزراعة، وبعض مديري البنك المركزي إلى جانب محاظ البنك، ومدراء مؤسسة الاقراض الزراعي وبنك الإنماء الصناعي ودائرة الإحصاءات... وغيرهم.
من الواضح أن كلا من هؤلاء كان يرى، أو كان مطلوبا منه أن يرى أنه جزء من النقاش، ولم يمتنع أحد عن الإجابة بانتظار مسؤوله الأعلى، بل قدم كل منهم إجابته.
اليوم هل يفكر أحد بسؤال الأكاديميين في الكليات الجامعية التي صارت تعد بالعشرات ويعد أكاديميوها بالمئات؟ وهل يعتقد عميد كلية اقتصادية أو مالية بأنه مطالب بأن يكون له رأي؟ هل فكر أحد بأن على مدراء الدوائر أن يسهموا في النقاش بشكل مستقل عن الوزراء والرئيس؟
يسود الآن منهج مركزية الرأي والنقاش، ويتخوف وزراء ومسؤولون من إبداء رأيهم، ولا يخطر ببال أكاديمي أن عليه مسؤولية الإسهام في الحوار.